إن الناظر إلى المشهد العربي على وجه العموم، وإلى المشهد اللبناني على وجه الخصوص، يدرك، كما المطّلع على حيثيات ذلك المشهد، تمام الإدراك أن لا وسيلة لمعالجة المشكلات والأزمات إلّا عن طريق الحوار والانفتاح بين مختلف الاطراف والاحزاب، وان اي وسيلة اخرى ليست الا وسيلة ميليشيوية هدفها وضع الوقود على النار لاشعال الفتنة، مما يزيد الامور تعقيدا بدلا من حل العقد، مما ينتج عن ذلك المزيد من الانغلاق والتقوقع، وهذا ما ثبت منذ اتفاق الطائف، لتطوى معها آخر صفحات الحرب الاهلية وصولاً الى اتفاق الدوحة عام ٢٠٠٨.
لكن يبقى السؤال هل السنّة هم العقدة، وماذا عن الإحباط السنّي؟
لم تكن الطائفة السنية يوماً الا من الدعاة الى تفعيل لغة العقل والحوار، مبتعدة كل البعد عن لغة الشارع والاقتتال. فمنذ عهد الرئيس رياض الصلح الذي اسس مع الرئيس بشارة الخوري الميثاق الوطني الذي ينظم تركيبة الحكم الطائفي في لبنان، الى الرئيس صائب سلام رجل الاستقلال، فالرئيس رشيد كرامي الذي عمل مع الرئيس اللواء فؤاد شهاب على بناء دولة المؤسسات، فالرئيس سليم الحص الذي نجح في قيادة منصب رئاسة الحكومة في اصعب الظروف، الى الرئيس الشهيد رفيق الحريري عرّاب اتفاق الطائف الذي جمع مختلف المتخاصمين بعد حرب استمرت خمسة عشر عاماً، فالرئيس فؤاد السنيورة الرجل الاقتصادي المخضرم وصولاً الى الرئيس سعد الحريري، وغيرهم كثر تعاقبوا على رئاسة مجلس الوزراء، اعطوا للبنان الكثير دون اي غاية شخصية او شعبوية، ورغم ذلك لم يتخلوا يوماً عن دورهم القومي لمناصرة القضايا العربية، لكنهم لم يبدّوها يوماً عن المصلحة الوطنية.
لقد عانت الطائفة السنية من التهميش والمحاصصة وعدم قدرتها على إيصال اصحاب الكفاءة الى اعلى المراكز، بسبب نظام ستة وستة مكرر، فكانت مصلحة الدولة بنظر أبنائها دائماً فوق كل اعتبار.
بعد زلزال الرابع عشر من شباط عام ٢٠٠٥ دخل الرئيس سعد الحريري المعترك السياسي للمرة الاولى وسط التفاف شعبي كبير حوله ليحمل لواء المدرسة الحريرية، الامر الذي تجلى في الانتخابات النيابية عام ٢٠٠٩ حيث حصل على اكبر كتلة نيابية آنذاك، فكانت تسميتة للمرة الاولى ليرأس مجلس الوزراء حيث شكل حكومة الوحدة الوطنية التي ضمت معظم الاحزاب اللبنانية، ومن يومها اخذ الرئيس الحريري على عاتقه ان يكون “أم الصبي” مقدماً مصلحة الوطن في الكثير من المحطات على مصلحته الشخصية والشعبية، وهو الذي اراد من تياره ان يكون تياراً عابراً للطوائف وملتقى لّلبنانيين لان هذه هي مدرسة رفيق الحريري وهذا ما كان يطمح اليه.
لم يكن سعد الحريري يوماً من الطامحين للوصول الى السلطة، فهو الذي فضّل الاعتكاف عن المشهد السياسي بعد استقالة بعض وزراء الحكومة عام ٢٠١١، ورغم محاولة الغاء الحالة الحريرية عاد سعد الحريري الى الوطن بعد غياب دام ثلاث سنوات. وهل كان لأحد ان يتصور ما قد يحصل لقاعدة شعبية كبيرة في ظل غياب قائدها كل تلك الفترة؟ لكن هذه القاعدة كان لها جواب واحد ان لا بديل عن خط الاعتدال ولا بديل عن الدولة اللبنانية، فعاد الحريري بروح الانفتاح متناسياً كل الجراح، فتراه يتنازل عن حصة ما هنا وأخرى هناك ولكن المبدأ واحد، لا بديل عن بناء مؤسسات الدولة.
لكن ماذا تبدل حتى ملّ الرئيس الحريري من لعب دور “أم الصبي”؟
بعد انتهاء ولاية الرئيس العماد ميشال سليمان دخل البلد في نفق مسدود بعد ان دام الفراغ الرئاسي عامين ونصف العام، مما ادى الى اضعاف البنية الاساسية في الدولة، ووسط الحرائق التي كانت تفتك في المنطقة وما ينتج عنها من صراعات وتهجير وابادة، لم يكن هناك امام الرئيس الحريري سوى خيارين: إما الدخول في المعركة غير آبه للنتائج ولما لا تحمد عقباه، او النأي بالنفس وتحييد لبنان عن كافة الصراعات. فكان لا بد له من أن يأخذ ايضاً على عاتقه حل الشغور الرئاسي، فذهب الى اعلانه تسمية سليمان بك فرنجية وصولاً الى الاتفاق على انتخاب الرئيس العماد ميشال عون، وإقرار قانون انتخاب يعلم سلفاً انه في غير مصلحته، لكنه فضّل دفع الفاتورة شخصياً. ولكن بعد ازمة تشكيل الحكومة الجديدة كان لا بد للرئيس الحريري من وضع قواعد عدة، والتي ظهرت في خطابه الاخير، وأبرزها:
اولاً، لا بديل عن اتفاق الطائف.
ثانياً، انه غير قادر على تحمل المزيد من التضحيات.
ثالثا، التأكيد على انه “بيّ السنّة” وهو حامل لوائهم.
رابعاً، التشديد على ان يكون تياره عابراً للطوائف واعلانه مد يده دائماً الى نهج الاعتدال.
في النهاية، وبعد المراجعة الدقيقة للمراحل والمتغيرات السياسية يتضح لنا ان لا أب للسنّة سوى سعد رفيق الحريري، لان الاب هو السند والصاحب، وهو أمان العائلة، وهو فسحة الأمل، لعلها تكون خطوة الالف ميل نحو غدٍ افضل.
دولة الرئيس بين “ام الصبي” و”بيّ السنّة” تأكد ان حولك رجالاً ودون اي غايات يثقون بك ويعتبرونك اباً واماً واخاً وصديقاً وسنداً.