الرئيس سعد الحريري، فاجأ اللبنانيين بعد عودته إلى بيروت في نهاية الأسبوع الفائت، بجملة من الأمور التي أبهرت المراقبين الكثر الذين احتشدوا لاستقباله والاستماع إلى كلمته في «البيال»، وأكثر ما لفت انتباههم أنه عاد إلى لبنان مدعوماً بشحنة كبرى من العزم والحزم، والإطلالة المحببة والشخصية المتصلة بصورة وثيقة وثابتة ومتطورة، آلت إليه من ثمار البنوة المتلاحمة مع صفات ذلك الرجل الكبير الشهيد رفيق الحريري، بالرغم من أن أحدا لا يمكن أن يشبه أحدا بالتمام والكمال حتى ولو كان والده وأستاذه ورائده في دنيا السياسة والعمل العام، إلاّ أن الشيخ سعد، الذي رأيناه وراقبنا أقواله وتصرفاته ومواقفه يوم الأحد الفائت، أكدت للجميع، أن هذا الرجل هو أقرب ما يكون إلى والده بكثير من صفاته الرائدة وتصرفاته القائدة وإمساكه بزمام الأمور، خاصة بعد أن تهيأ للكثيرين أن ملامسها تكاد أن تفلت من أنامله، فكانت عودته، مجرد عودته، وإطلالته المشرقة على الناس وكلماته ذات الطابع القريب إلى العقل وإلى القلب، دافعا شديد الوقع للملمة كل ما كان يقتضي لملمته. العودة ومغزاها وإطلالتها وشجاعتها المدروسة في التغلغل بين آلاف المدعوين إلى الاحتفال الرمزي الكبير بمناسبة الرابع عشر من شباط استعادت إليها كل من له علاقة بتيار تلك المناسبة الأليمة – العظيمة في تاريخ لبنان الحديث، متجاوزا بعض العفويات التي طرأت من خلال كلمته الأخيرة، ومعالجا بكثير من الحكمة، استغلال المستغلين الطامحين إلى مزيد من بعثرة الأوضاع وخلق ما أمكن من التطورات المسيئة. الأحداث الأليمة، كوّنها الزمن الذي أطلق فيه المجرمون حقدهم وتآمرهم وتفجيراتهم المجنونة والملعونة والتي أدت إلى استشهاد أبرز وأهم شخصية قيادية لبنانية – عربية بل وربما نافست وبشدة غير مقصودة لتكون أيضا وأيضا في أهم مواقع القيادات الدولية ذات الفعل والأثر. والمناسبة العظيمة، لأنها كانت سببا أساسيا في تكوين وحدة لبنانية غير مسبوقة في حجمها وتكاتف المشاركين العفويين فيها، وهي جموع حفلت بأرجائها الساحة التاريخية، في بيروت والمعروفة بساحة الشهداء، وقد تضاعفت روح الشهادة فيها بما حفل به لبنان لاحقا من عمليات اغتيال اجرامية طاولت أعدادا مهمة من قادة الفكر والسياسة والصحافة والاستنهاض الشعبي والوطني، فتأصلت كما تأصل لبنان كله بروح الشهداء وتحقق شهاداتهم واحدا تلو الآخر، ورائدهم كان ولم يزل، ذلك القائد الكامل الشامل الذي وخلال سنوات قليلة نسبيا، تمكن بزعامته المتفوقة من تحقيق بنية لبنانية ذات أذرع وضلوع في دنيا الاقتصاد والسياسة ونشر العلم والثقافة والمعرفة وتعليم أجيال بأسرها من شباب هذا الوطن على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وفئاتهم وجهاتهم، ولم يكن في ذلك سعيا إلى غايات صغيرة النشأة والمقصد، بل كانت عيناه، تجوبان أنحاء الوطن كله، وكانت الرغبة في اقتلاع هذا البلد من أدران الماضي المأساوي ومهاوي الاحتراب الداخلي، هي غايته الأساسية ووجهته في الحياة التي ضحى في سبيلها بجملة من مباهج هذه الدنيا، وكان يدري في المرحلة الأخيرة من مراحل عمره أن حياته في خطر، وأن أهل الشر والعدوان يسعون إليه سعيا حثيثا. كان ينكر ذلك ويستبعده أمام الناس، وكان البعض يعلمون علم اليقين، بأن حياته مهدده. دون أن أنسى أنني كنت مدعوا لديه يوم السبت الذي سبق اغتياله يوم الأثنين، فما أن تمنيت عليه وجوب اخذ الحذر بعد أن بدأت بوادر الأشرار والشر، تطفو في بعض الاوساط حتى قلل من شأن ما ذكرت، وكان المرحوم ابو طارق رفيق الرئيس الشهيد في الاستشهاد، قد أقبل برسالة شفهية للرئيس الشهيد، فسمع بعضا مما قلته له، وعند خروجي من القاعة أقبل إلي قائلا: سمعتك تحذر الرئيس من مغبة الاعتداء على حياته، ارجوك تابعوا أنتم أصدقاؤه ومحبوه في الإلحاح على وجوب أخذ الحذر لعله يسمع منكم ما تهرّب من أن يسمعه منّا، ولم يمكنا الوقت مع الأسف من تكرار الطلب. وكان القدر الغاشم والحدث الآثم الذي طاول الرئيس الشهيد مع رفاقه وبينهم أبو طارق. فكانت الخسارة العظمى لرجل عظيم، تسعى المحكمة الدولية في لاهاي، إلى إعطائه بعض حقه في معرفة الحقيقة، وتحقيق أي قدر ممكن من العدالة المعنوية التي تعوض بعضا قليلا من خسارة ذلك القائد العظيم، شخصا ودورا وريادة في الزعامة والقيادة والأفق الواسع.
استمعنا يوم الأحد الفائت إلى كلمة الشيخ سعد، أبن ذلك الإنسان الذي هانت لديه الدنيا وضحى بحياته وروحه وتجذره في أرض وطنه وضمائر مواطنيه، فأدركنا اننا في بعض ملامح المتكلم ومعالم الكلام وعنفوان الكلمة والشخص والقائد، أمام ابن ذلك القائد الكبير المحارب على كثير من الجبهات وأهمها تلك الجبهة التي قضت على حياة والده، فكثر من حوله من ينصحه ويؤكد عليه بوجوب أخذ الحذر، وها هو اليوم في بيروت قلب الوطن يعلن أنه باق فيها لمدة طويلة. وما زالت كلماته في حفل يوم الأحد تصرخ مؤكدة على عروبة لبنان. هذا الوطن لأهله وأبنائه جميعا بكل طوائفهم هم من خلاصة الإنتماءات العربية، وقد كانت كلماته مؤثرة في كثير من جوانبها وفي طليعة ما كان لها من تأثير وفي طليعتهم غساسنة هذا البلد وموارنته القادمون إلى ربوع هذه الأرض من أعماق سوريا العربية، صيحته الداوية بالتأكيد بعروبة لبنان واللبنانيين ربما جاءت مع الأسف، نتيجة جنوح مستجد في هذا البلد لدى فئة من ابنائه، ضل بها السيل إلى الخارج، انتماءً وعقيدة وتوجها، ونسيت أصالتها العربية وانتماءاتها الوطنية الخالصة، وبتنا أمام جنوح غريب يقوده البعض ويوجهه بالتفريق العلني المؤسف بين المذاهب الإسلامية، وذلك مشروع فتنة لا قدر الله، نرجو أن ينقذنا الله من براثنها، وهنا يأتي دور مطلوب للقادة المخلصين في درء الفتن عن الوطن والمواطنين، وللشيخ سعد في هذه الوجهة أكثر من دور ومهمة توحيدية ملحّة.