في حصيلة تقويمها استمرار الشغور الرئاسي في لبنان الى امد غير منظور، باتت المواقف الدولية الاخيرة تجد فيه مدخلا الى تقويض تدريجي للاستقرار. اضحى امرار الاستحقاق في ذاته اولوية وهدف ضمان هذا الاستقرار
تقاطع موقف مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الادنى انطوني بلينكن في بيروت، الاثنين الفائت، مع البيان الرئاسي لمجلس الامن في 19 آذار حيال الموقف من انتخابات رئاسة الجمهورية، وبدا احدهما يكمّل الآخر في اكثر من جانب في الاستحقاق المعلق. لم يكن تركيزهما على استعجال انتخاب الرئيس وربط استمرار الفراغ باحتمال تعرّض لبنان لانتكاسة في استقراره مصادفة، مقدار ما عبّر ــــ في تقدير جهات رسمية معنية ــــ عن مخاوف جدية على ثبات هذا الاستقرار.
وتبعا لملاحظات الجهات الرسمية هذه، تكمن اهمية ما اجتمع عليه البيان الرئاسي لمجلس الامن والبيان المكتوب لبلينكن في انهما ــــ في سياق طويل من الجهود الغربية على امتداد الاشهر المنصرمة توزعت بين موفدين دوليين وتحرك سفراء معتمدين في لبنان ــــ لم يكتفيا بحضّ الافرقاء اللبنانيين على استعجال انتخاب الرئيس، بل اثارا للمرة الاولى فكرتين مختلفتين وجديدتين: قلقهما من امكان انحسار عمل المؤسسات الدستورية في ظل شغور مديد وغامض، و»مساءلة» المتسببين في استمرار الشغور.
اولى الملاحظات، ان بيان مجلس الامن تناول الاستحقاق الرئاسي للمرة الاولى في 13 سطراً، بعدما اكتفى الموقف الدولي في مرات سابقة بتذكير اللبنانيين باستحقاقهم بسطر ونصف سطر في احسن الاحوال، او عندما يصدر بيان او موقف عن الامين العام للامم المتحدة. صدر البيان الرئاسي عن لبنان في ثلاث صفحات ونصف صفحة، اقتضبت وسائل الاعلام مضمونه في بضع فقرات. اتى ايضا كي يؤكد استمرار الجهود الدولية بعد تعثر مهمة الموفد الفرنسي الخاص السفير جان فرنسوا جيرو في طهران والرياض وبيروت على السواء. لم تكن العاصمتان الاقليميتان المعنيتان جاهزتين لاطلاق الصفارة، ولا الافرقاء اللبنانيون يعرفون ما يقتضي ان يفعلوا في استحقاقهم بازاء الازمات الاقليمية. لم تكن لسنة ونصف سنة خلتا، مرحلة وساطة جيرو، انفجرت حرب اليمن كما في الايام الاخيرة، ولا التفاوض على البرنامج النووي الايراني اصبح على قابي قوس او ادنى من الاتفاق عليه مع الغرب، ولا ايران والسعودية كانتا وجها لوجه في الصراع الاقليمي.
خلافا لموقفه من الاستحقاق، وجد المجتمع الدولي في تمديدي 2013 و2014 ضمان الاستقرار
ثانيها، ان البيان الرئاسي لم يكتف بالاعراب عن قلقه من تأثير الشغور على عمل المؤسسات الدستورية اللبنانية، بل ابدى للمرة الاولى قلقا مماثلا على ثبات الاستقرار في ظل استمرار الشغور، ما حمله على مخاطبة النواب ــــ وهو يحضّهم على فصل المصلحة العامة عن المصلحة الخاصة ــــ بدعوتهم الى انتخاب الرئيس «بلا ابطاء». وهو بذلك يتجاوز الحق الدستوري الذي تتمسك به الكتل النيابية المقاطعة جلسة انتخاب الرئيس، كي يلتقي البيان الرئاسي في حديثه عن الواجب الدستوري مع كلام بلينكن، ومن قبل ثم من بعد مع موقف بكركي الداعية الى التوجه الى البرلمان فورا للاقتراع للرئيس.
ثالثها، من دون ابراز افكار او اقتراحات محددة، حاول البيان الرئاسي اظهار اهتمامه بلبنان على نحو يجعله معنيا مباشرا به، ويبدّد حجّة التدخل في شأن داخلي محض. يستمد مجلس الامن اهتمامه من قلقه على جنود القوة الدولية في الجنوب تنفيذا للقرار 1701، وهو ما افصح عنه باستمرار في تقاريره وبياناته الدورية كهمّ اول، في معزل عن الاستحقاقات المحلية. يجد نفسه معنيا بسلامة الجنود، مقدار ثبات الاستقرار الداخلي في لبنان كجزء لا يتجزأ من مسؤولية المجلس حيال استقرار المنطقة. على نحو مماثل، لم يتردد بلينكن في تحميل حزب الله قسطا وافرا من مسؤولية الاخلال بالاستقرار، من خلال دوره في الحرب السورية. تحدث عن ذلك البيان الرئاسي ايضا، والتقيا على وجود عناصر زعزعة الاستقرار تعثر في استمرار الشغور على مقومات انفجارها.
رابعها، يتوسل الموقف الدولي ضمنا، من خلال البيان الرئاسي كما مما ادلى به الديبلوماسي الاميركي، قاعدة لم تكن نفسها عند مقاربة الانتخابات النيابية مرتين على التوالي عامي 2013 و2014. فيهما، راح سفراء المجتمع الدولي، واخصهم ممثلي الدول الكبرى، يرجحون كفة الاستقرار على الانتخابات النيابية، اذ لاحظوا ان اجراءها قد يتسبب بالاخلال بالامن، ودافعوا للمرة الاولى عن اقتناعات مناقضة للموقف الغربي في الغالب من تداول السلطة والممارسة الديموقراطية. على امتداد الاشهر التي سبقت تمديدي 2013 و2014، كان من السهولة بمكان العثور على تبريرات جمّة لسفراء الغرب يفضّلون تمديد ولاية مجلس النواب استثنائيا، في معرض اظهار الحرص على الاستقرار. مع الاستحقاق الرئاسي باتت القاعدة مقلوبة تماما. لم يكف السفراء ولا الحكومات المعنية بالاهتمام بلبنان عن الاصرار على اجراء الاستحقاق. على ابواب الشهر الحادي عشر بدأوا يشعرون بأن استمرار الشغور يقرع ناقوس الخطر على ديمومة الهدوء الامني في البلاد. بات اجراء الانتخابات الرئاسية ممرا وحيدا والزاميا لضمان الاستقرار. بل يذهب اصحاب هذا الرأي من بين ديبلوماسيي عواصم الدول الخمس الدائمة العضوية، تطابقا مع ما عناه البيان الرئاسي لمجلس الامن، الى القول ان انتخاب الرئيس عنصر فاعل لترسيخ مزيد من الاستقرار يحتاج اليه لبنان في هذا الوقت بالذات، على اطراف النزاعات الاقليمية ووجها لوجه مع الارهاب على الحدود الشرقية.