يستمر المشهد السوريالي والخيالي متحكِّماً بكيفية تصرّف الساحة السياسية والتشريعية في لبنان امام المشاريع والمشاكل المعروضة أمامها… ففي الفترة نفسها التي دخَل فيها لبنان نادي الدول التي يمكن للمواطن أن يراقب اعمال الدولة بكلّ أجهزتها، تجتمع مجموعة من الساسة بعيداً من الأعين لتمرير قانون انتخابات لن يراعي إلّا مصالحها.
فأخيراً، وبعد انتظار دام لأكثر من ثماني سنوات، أقرَّت الهيئة العامة للمجلس النيابي في اجتماعها الأخير، قانون «الحق في الوصول الى المعلومات»… هذا القانون من المفروض أن ينقل لبنان الى مرتبة مشابهة للدول الراقية والمتقدّمة ديموقراطياً، خصوصاً أنّه يمكّن المواطن عموماً والإعلاميين والمتابعين للشأن العام خصوصاً، من الوصول الى المعلومات والمستندات الموجودة لدى كلّ مؤسسات الدولة، اضافة الى الاطلاع على معظم الاجتماعات العامة والتقارير التي تصدر عنها.
من حيث المبدأ، فإنّ هذا الإنجاز التشريعي مهمّ في تحقيق دولة العدالة والمؤسسات ويؤدي الى تقدم لبنان خطوة يحتاج اليها الى مصاف دول التي تقيم وزناً لمواطنيها، والاهم من ذلك أنه يمكّن هذا المواطن من أن يتحوّل مراقباً للادارة في كل تفرّعاتها وقراراتها…. ولكن كما كلّ القوانين التي تحدّ من سلطات المجموعة الحاكمة تبقى العقبة الكبرى أمام تطبيق هذا القانون هي النجاح في إقرار مراسيمه التطبيقية في مجلس الوزراء، وما أدراك ما هي العراقيل التي تقف في وجه إقرار أيّ مرسوم عادي في السلطة التنفيذية؟ فكيف إذا كان المرسوم يحمل في طياته كسراً لهيمنة فئة تعتبر انها تملك الدولة وكل ما يدور في فلكها؟
ولعلّ خير دليل على ما نقوله في التحديات التي ستواجه تنفيذ هذا القانون، ومن أنه لا امل في تبدّل تعاطي السلطة مع حق المعرفة، هو في كيفية تصرف هذه المجموعة مع إقرار قانون الانتخابات النيابية وهو الأهم في حياة اللبنانيين، والذي يُحدّد حكماً وسلفاً شكل التعاطي المستقبلي معهم وينظم علاقتهم مع أمّ السلطات السلطة التشريعية… الذي وبعلم الجميع يُطبخ في السرّ وبعيداً من الأعين، بواسطة لجنة تسلّحت بمقص يفصّل الدوائر والناس والتاريخ والمستقبل وفقاً لمصالحها الضيقة ويؤمّن كيفية بقائها في الحكم أطول فترة ممكنة، قافزة فوق كلّ علم انتخابي،
بل متجاهلة أبسط قواعده حتى ولو استعانت ظاهرياً بخبراء ليكونوا شهود زور على قتل القانون، ودفن الديموقراطية، و«شرشحة» المساواة… وهي تتصرّف وكأنّ القانون المزمع إقراره يعنيها فقط، فلا حاجة أن يطلع أحد على مسودّته لا مرشحين محتملين، ولا ناخبين صابرين، ولا أحزاب،
ولا نقابات، أو مجتمع مدني… ولا حتى مناصرين الذين ينتظمون في مراكزهم منذ الآن بصفتهم ماكنات انتخابية لقانون لا يدركون مواده ولا تقسيماته… والأسوأ من كلّ ذلك أنّ هنالك مَن يحاول أن يسوّق بأنّ السرّية وعدم البوح بمقرّرات هذه المجموعة انما يهدف الى حماية المشروع من السقوط ومن اطلاق النار المسبَق عليه، متناسياً أنّ المشكلة الاساسية امام قانون الانتخاب في «الطائف» هو أنه يحدد شكل السلطة وتوزع القوى فيها… وهذا التحديد يمنع إقرار قانون عادل كونه سيسقط معظم الطبقة الحاكمة في مختلف المناطق وعلى كلّ المستويات، وهذه المعضلة لا تستطيع حلّها لا طاولة الحوار ولا السلطة التشريعية مجتمعة ولا هذه المجموعة.
أما السرّية وعدم البوح، فهما نتيجة حتمية لطريقة التعاطي الانتهازي مع الرعايا والناس والمواطنين اللبنانيين وتأمين مصالح الفئة الضيقة من المستفيدين حتى وسط السلطة الحاكمة، ولا سبب آخر يجيز هذا التكتم… اللهم إلّا إذا كان الخلاف على توزيع قالب الحلوى ما زال واقعاً بين افراد الطبقة القابضة على أعناقنا.
هو مشهد سوريالي صحيح، ولكنه يحتاج الى دقة في المراقبة وتعمّق في الاستنتاجات، على أننا محكومون بعصبة لا تقيم وزناً لرأينا ولا للقانون الذي من الممكن أن تخرج به، إلّا إذا كان يؤمّن مصالحها…