في العام 1916 لم يقسم الشرق الأوسط ثنائياً بين فرنسا وبريطانيا (سايكس بيكو). جرى التقسيم ثلاثياً. كان وزير الخارجية الروسي في ذلك الوقت سيرجي زاسونوف هو ثالث سايكس وبيكو. فقد انتدبه القيصر نيقولا الثاني لتمثيل روسيا في مباحثات التقسيم. كانت حصة روسيا من صفقة التقاسم، السيطرة على مدينة اسطنبول وعلى كردستان وأجزاء أخرى من تركيا، اضافة الى جزء من مدينة القدس.
غير ان قيام الثورة البولشفية، وسقوط القيصر وحكومته، وفر لبريطانيا وفرنسا الفرصة لتقاسم الحصة الروسية.
الان وفي العام 2016، أي بعد مائة عام على عملية التقاسم والتقسيم، هل يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعادة ما فقده الكرملين او على الاقل استعادة ولو جزء منه من خلال التدخل العسكري في سورية؟
في الاساس ليس التدخل العسكري الروسي في الشرق الأوسط استثنائياً. في حزيران/يونيو 1772 قصف الاسطول الروسي بيروت واحتلها لمدة ستة أشهر. وكانت يومها خاضعة للسيطرة العثمانية؛ وجاءت تلك المبادرة كما اليوم – تلبية لنداء استغاثة من قوى عربية معارضة للعثمانيين.
وفي العام 1768 كان التدخل العسكري الروسي الأكبر في المنطقة العربية تحت مظلة الحرب ضد العثمانيين. في ذلك العام كلفت الامبراطورة كاترين أحد كبار قادتها العسكريين الكسي اورلوف (وكان شقيق عشيقها غريغوري اورلوف) التوجه الى شرق البحر المتوسط عبر بحر البلطيق ومضيق جبل طارق لدعم حركة ثورية وطنية معارضة للعثمانيين.
وقد تمكن اورلوف بمساعدة خبراء عسكريين اسكوتلنديين من هزيمة الاسطول العثماني ومن السيطرة على شرق المتوسط.
شجعت هزيمة الاسطول العثماني في المتوسط حركات التمرد الوطني العربية ضد العثمانيين في سورية، وخاصة في دمشق. الا ان التأييد الروسي لم يكن مجانياً.. كان المقابل مساعدة القوات الروسية على احتلال القدس. وهكذا قصف اسطول اورلوف المدن السورية واحتل بيروت.
لم يخرج الروس من بيروت ولم يتخلوا عن حلفائهم في سورية الا بعد ان قدمت الامبراطورية العثمانية تنازلات لروسيا في اوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم. وبموجب هذه التنازلات ضمت روسيا اليها القرم وحولت شبه الجزيرة الى قاعدة لأسطولها في البحر الأسود.
اما اليوم، وقبل أن يرسل الرئيس بوتين قواته العسكرية الى سورية، كان قد استرجع شرق أوكرانيا رغم تهديدات حلف شمال الاطلسي -، واستعاد شبه جزيرة القرم وأعاد ضمها الى الاتحاد الروسي رغم المعارضة الاميركية والأوروبية -. وفي الوقت الذي كانت الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي يفرضان العقوبات الاقتصادية على بلاده للانسحاب من القرم ومن شرق أوكرانيا، فاجأ الجميع بمبادرته العسكرية في سورية تحت مظلة مكافحة الارهاب !!
وحتى عندما وصفت الكنيسة الروسية هذه المبادرة العسكرية بالحرب الدينية المقدسة، فان ذلك لم يأتِ من فراغ. فروسيا كانت دائماً تتطلع الى حصة في الأراضي المقدسة، وفي مدينة القدس تحديداً، وهو ما أكده مشروع الثلاثي سايكس بيكو زاسونوف في عام 1916. ثم ان الشرارة التي أشعلت حرب القرم كانت صراعاً بين الأساقفة الروس الأرثوذكس والأساقفة الفرنسيين الكاثوليك. كان الروس في عام 1856 يتطلعون لاحتلال القدس، الا ان القيصر الكسي الثاني بعد الهزيمة العسكرية التي نزلت بقواته، تراجع عن هذا الهدف.. وحتى هذا التراجع كان موقتاً وتحت ظروف قاهرة. ذلك انه خلال الحرب العالمية الأولى احتلت القوات الروسية أجزاء من ايران وحتى العراق.. وعينها على القدس!! غير ان فلسطين كلها، وليس القدس وحدها، كانت محجوزة لتقدَّم هدية الى اليهود لاحقاً (بموجب وعد بلفور).
بعد انهيار الامبراطورية العثمانية الرجل المريض – وتقاسمها، طرحت فرنسا ذاتها حامية للموارنة، وطرحت روسيا ذاتها حامية للأرثوذكس، وطرحت النمسا ذاتها حامية للكاثوليك، من دون أن يطلب أي من هذه الجماعات الدينية حماية خارجية.. إلا أنه تحت مظلة حماية الأقليات الدينية، كان التدخل الذي استهدف تقاسم المنطقة، وهو ما يجري الآن أيضاً.
في تلك الحقبة التاريخية لم يكن للولايات المتحدة حضور مؤثر او دور فعال في الشرق الأوسط، ولم تكن تكونت بعد جماعة إنجيلية لتبرير التدخل من أجل حمايتها. كانت الحركة الروسية تجري بالتناغم والتنسيق مع القوتين الكبيرتين في ذلك الوقت، فرنسا وبريطانيا، أو بالالتفاف عليهما.
اما الحقبة الراهنة فانها تشهد تراجعاً فرنسياً بريطانياً.. وانكفاءً أميركياً تجسده سياسة الرئيس باراك أوباما في الشرق الأوسط.. وتقدماً روسياً تسبغ عليه الكنيسة الروسية بعداً مقدساً !!..