«سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، وهو التافه الجاهل في الشؤون العامة». (حديث شريف)
موجة العداء للثقافة انتشرت سنة 1870، والاعتقاد السائد حينها أنه على الاشتراكيين أن يتعلموا من الشعب أكثر من محاولتهم أن يكونوا قادة له. بعد ذلك بسنوات قليلة، بدأ الماركسيون الروس استخدام المصطلح، بشكل مختلف وسلبي، للإشارة إلى الاشتراكيين الذين يعتقدون بإمكانية أن يكون الفلاحون فاعلين أساسيين في الثورة، وأنّ المشاعات والتقاليد الريفية يمكن أن تكون أسساً يُبنى عليها المجتمع الاشتراكي المستقبلي. هكذا، تحوّل هذا المصطلح للإشارة، في روسيا وفي الحركة الاشتراكية العالمية، إلى الحركات التقدميّة التي تناهض الطبقات العليا في المجتمعات، وعلى عكس الماركسية، تتبنّى توجهات قوميّة وتتماهى مع الفلاحين. لكن لاحقاً أصبح اليمين واليسار والوسط سواسية في استخدام المنطق الشعبوي الذي يعتبر أيّ فكر سياسي يتجاوز رغبات الشعب وتوجهاته الآنية هو الأساس لدرجة تصل إلى حد العدمية المطلقة في التخطيط. والجدير ذكره أنّ العلم، أو الدرجات العلمية، أو الطبقة الإجتماعية لا تعفيان الناس من الوقوع في شباك الشعبوية، فهذه النحلة العدمية تدخل في إطار منطق الحشود الذي يفقد المنطق والقدرة على التحليل، ليصبح الحكم مطلقاً، أبيض أو أسود، طاهراً أو فاسداً، أو بالمختصر «كلن يعني كلن». وبالتالي تصبح الضوضاء والقدرة على إحداث القدر الأكبر والأعلى من الضجيج هما الحاكم والمحقق والجلاد. هو بالذات زمن الرويبضة الذي يسبق انهيار كل شيء، وقد يكون انهيار منظومة فاشلة مطلباً ملحّاً اليوم في بلدنا، لكن المخيف لمن هم في عمر الكهولة مثلي، هو عدم وجود رؤيا لما بعد الإنهيار، أو التدمير الذي لا يتبعه إبداع في البناء. فقدان السلطة وفقدان البوصلة يؤديان حتماً إلى انهيار القيم الإجتماعية وسيادة الفوضى وعودة إنسان الطبيعة حسب وصف توماس هوبس، حيث الكل ذئب للكل، والكل يملك الحقيقة الكاملة التي يتحول من خلالها إلى الحكم والديّان.
منطق الحشود أيضاً هو الذي جعل أفلاطون يبحث عن حكم الحكيم في جمهوريته الفاضلة، بدل حكم الشعب، بعد أن حكمت الحشود على حكيم أثينا سقراط بالإعدام بالأكثرية التي ارتفع صوتها على صوت العقل!
ما لنا ولكل هذا الكلام الفارغ الآن، فلحظة الثورة لا تتحمل من يتحدث عن السمو والارتقاء من الآني إلى السامي، وإن اعتقد الثائر بأنه يطال السماء بقامته عندما يثور. ولا بأس، فالثورة كانت حاجة ملحة للإقدام لضرب واقع راسخ أدى إلى تدهور الوضع الإقتصادي والإجتماعي في بلد كان يتصور نفسه، أو يتوهّم أهله، أنهم أعقل وأكثر علماً ومعرفة وثقافة بالمقارنة، ليس فقط مع شعوب المنطقة، بل مع العالم أجمع! ولو وجدت حضارة في كوكب آخر، لتعلموا منّا كيف تدار الحضارة. ولا بأس أيضاً إن تحدث آخرون عنّا عن جمال وشاعرية وإبداع مظاهراتنا وأهازيجنا في الساحات، لكنّ محاولة إدامة البروز والوجود في الإعلام وعلى شاشات التلفزة المحلية والعالمية، دفعت بحكم الضرورة، بمن هم أقل إبداعاً إلى اللجوء إلى ما رأيناه في الساحات خلال الأيام الماضية، وما هو مرشّح للتكرار إلى أن تحدث كارثة إنسانية تؤدي إلى عودة العقل والبحث عن حلول قابلة للتحقيق، أو أن يتدحرج الوضع إلى فعل ورد فعل لا يمكن التنبؤ بتبعاته.
الثورة لحظة عظيمة في التاريخ، وهي عادة تنجح بإحداث التغيير، فقط إذا نجحت بوضع كل السلطات تحت تصرفها، ومن بعدها يمكن أن تأخذ كل شيء وأن تسقط الرؤوس وتصدر أحكامها. ولكن دون ذلك يمكن ما يحدث اليوم في لبنان بالحركة المطلبية، أو الانتفاضة المستندة إلى مطالب. وبالتالي، فإنّ واقع النظام القائم يبقى الحكم في مسار الأمور، وهناك قوى واضحة المعالم ولديها جمهورها المتمرس والمتمسك بقياداته المقدسة التي لا يمكن حتى التلميح بأنها جزء من «كلّن»، وإلّا فالعصي والدراجات النارية والسيارات المحروقة جاهزة للرد وإجبار مَن دنّس حرمة الزعيم على الإعتذار العلني، بالطبع بعد تهشيم وجهه.
بين مطرقة البلطجة وسندان الشعبوية، بقيت وجوه وشخصيات غير محمية من البلطجية، لتكون متروكة لينكلّ بها على سندان الشعبوية. فمن السهل مثلاً أن يتظاهر البعض أمام بيت سعد الحريري بكل أمان وثقة، لكن حذار المرور قرب «عين التينة»، ومن السهل اختيار تيارات وأحزاب لاتهامها، فقط إن كانت ليس لديها ميليشيات جاهزة، أما أصحاب الميليشيات فيتم التِماس رضاهم! لا بأس، فحتى الثورة أحياناً تذهب إلى الواقعية، وأحياناً إلى المركانتيلية.
لكن أن تذهب الشعبوية لتحتل صرح الموضوعية والعلم في «الأسمبلي هول» في الجامعة الأميركية للتهجّم على فؤاد السنيورة وإجباره على الخروج بتلك الطريقة، فهو ظاهرة مرَضيّة بالكامل يبدو أنها أصابت من يدعي بأنه نخبة المجتمع الثقافية في هذا البلد، الذي يبدو أنّ لوث الشعبوية أخذ فيه بعقل الجميع، ولم يبقَ من يعوّل عليه للإبداع بعد التدمير، حتى بين النُخب.