Site icon IMLebanon

بين كلام الراعي ورد بري «سلة مفخوتة»

على حفافي المسعى الانتخابيّ الأخير، تتدحرج عبارات وكلمات ساخطة، تحمل في طيّاتها ما يستدعي من جميع الأفرقاء الحريصين على إنضاج الاستحقاق الرئاسيّ التوقف عندها ومناقشتها بسلاسة وحكمة والذهاب باتجاه الهواجس الصادرة عنها بلا زغل. من العبارات المتدحرجة التي أحدثت دويًّا كبيرًا ما صدر عن البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الراعي في عظة الأحد أمسّ الأوّل، رافضًا «السلّة» معتبرًا أنّ «التقيّد بالدستور والميثاق حرفًا وروحًا يغني عن هذه السلّة، فإن كان لا بدّ منها فينبغي ان يوضع فيها أمر واحد هو: التزام جميع الكتل السياسيّة التزام المصلحة الوطنيّة المشتركة العليا…» ليصل بصرخته إلى الذروة في هذا التساؤل الكبير: «ثمّ كيف يقبل أيّ مرشّح للرئاسة الأولى ذي كرامة وإدراك لمسؤولياته، أن يعرّى من مسؤولياته الدستوريّة بفرض سلّة شروط عليه غير دستوريّة وأن يحكم كأداء صمّاء؟»

الذروة في كلمة البطريرك الراعي تكشف سوء الفهم الكبير والضبابيّة المغلّقة لهذا السعي المتدفّق من كلّ الجهات والاتجاهات. فالسلّة التي أرادها الرئيس برّي لم يكشف شيء عن مضمونها بعد، على الرغم من أنّه قد اعتبرها معبرًا إلزاميًّا لوصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهوريّة، لكنّ بعض الأوساط المتابعة أظهرت أنّ السلّة ليست بالمطلق سلبيّة، فهي مؤلفة من مجموعة بنود مطلوب من الجميع تعهّدها والالتزام بها. والبنود مرتبطة بسلوكيات الحكومة الجديدة ونهجها ومضمونها السياسيّ، كما هي في الوقت نفسه مرتبطة بشكل الحكومة وتوزيع الوزارات على من ستعيّنهم الأحزاب والطوائف ليستلموها، وفي التوزيع، تقول أوساط عارفة برؤية برّي أنّه لن يتخلّى عن الوزارات العائدة للطائفة الشيعيّة كمثل وزارة المالية والتي يعتبرها حيويّة لديه وصولاً إلى معظم المواقع التي هي متنفّس حيويّ لديه.

تبدو السلّة بهذا المعنى سلّة هواجس وحقوق ومكاسب. وفي الوقت عينه سلّة فيها رؤى سياسيّة تعنى بالسلوكيات الجديدة لحكم سيتشكّل ويبزغ مع تحقيق التسوية الرئاسية المقترحة. وتقول معلومات عن مصادر مقرّبة من الرئيس نبيه برّي بأن الكلام حول جعل السلّة معبرًا إلزاميًّا لوصول عون لرئاسة الجمهوريّة جاء كردّة فعل على معلومات وردت في الصحف وعبر قنوات خاصّة تقول، أنّ وزير الخارجية جبران باسيل ومستشار الرئيس الحريري نادر الحريري قد اتفقا على شكلّ الحكومة وعلى الوزراء الذين سيتسلمون الحقائب السياديّة والأساسيّة، وهذا ما أثار حفيظة برّي برسالة أولى أوصلها بانّ الأكل لا يتمّ بلا طبّاخ والرسالة الثانية وهي الذروة جاءت حول السلّة.

في المقابل تنفي مصادر قريبة من التيار الوطنيّ الحرّ أيّ اتفاق مسبق مع الرئيس الحريري أو مع مستشاره، والبحث تمحور بالطرق والآليات الناجعة والناجحة التي تجعل تلك التسوية ناضجة، ولو لم تبلغ النضوج لما ذهب السيد نادر الحريري وابلغ المسؤولين في حزب الله عن قبول الرئيس الحريري بانتخاب العماد عون رئيسًا للجمهوريّة وجهوزيّته لها، وقد تمّ كلّ ذلك بعيدًا عن الكلام في الحصص الوزارية أو المضمون السياسيّ، والتيار الوطنيّ الحرّ ضنين بقربه من جميع الفرقاء ولا سيما الرئيس نبيه برّي، وقد تم التعبير عن ذلك غير مرّة، كما هو ضنين بالآليات الدستوريّة وسيرورتها كحالة ناظمة في انتخاب الرئيس وتسمية رئيس للحكومة وتشكيلها، التيار الوطنيّ الحرّ يجيء من الكتاب ودومًا يعود إليه . يتضّح من كلّ ذلك أنّ التسوية بحدّها الأدنى أي بشكلانيتها الواضحة ناضجة، غير أن عمق النضوج ينبغي أن يتجلّى ويتجسّد بتبديد الهواجس المتصلة بالواقع المسيحيّ ودوره التكوينيّ والميثاقيّ. كما يتجلّى ويتجسّد في فهم المسيحيين للهواجس الإسلاميّة المتصلة بتعددية لبنان ونظامه الميثاقيّ والتشاركيّ. فممّا لا شكّ فيه أن القالب الميثاقيّ للبنان قد اهتزّ وترجرج بفعل التجاوزات منذ التطبيق المنحرف لاتفاق الطائف إلى الآن، وقد رمت المسيحيين خارجًا وجعلتهم على قارعة الطريق، وقد بلغ الاهتزاز ذروته الهائلة بفعل الصّراع المترامي والمتنامي في سوريا والعراق وقد تمّ فيه تهديد المسيحيين واقتلاعهم في مدن عديدة ممّا عزّز الريبة والخشية والقلق عند مسيحيي لبنان ورأوا أنّ ممارسة السنيّة السياسيّة أو الإسلام السياسيّ ومن يدورون في فلكها تتماهى مع ما يحصل للمسيحيين العرب بدءًا من تشليحهم الحقوق وسلخهم من مواقعهم والتعامل معهم وكأنهم اهل ذمّة. والانكباب على ترشيح العماد ميشال عون بما يمثّل من حضور مشرقيّ لاهب مرتبط بتلك الحيثيّة بدقتها وتفاصيلها ويمهّد الطريق لانبثاث المناصفة ضمن قانون انتخابات يتمسّك التيار الوطنيّ الحرّ وعدد من القوى السياسيّة بأن يتأسّس على النسبيّة المطلقة، مع مراعاة التمثيل الصحيح الذي يؤمّن المناصفة حتّى نبلغ يومًا ويتمّ فيه إلغاء الطائفية السياسيّة تنفيذًا للمادة 95 من الدستور.

السؤال المطروح هل كلام البطريرك حول السلّة معطّل للمساعي، أو أن السلّة هي من عطلت المسعى وماذا عن الأجواء المتصلة بالإيجابيّة التي أظهرها العماد عون على لسان الرئيس إيلي الفرزلي، تجاه الرئيس نبيه برّي قياسًا لما هو مطروح، وسيكون للعماد عون حديث تلفزيونيّ طويل ومنتظر.

مصدر سياسيّ اعتبر أنّ صرخة البطريرك وعلى الرغم من أهميتها هي جزء حاو لاعتراض متشدّد في متنها ومتراكم في تاريخها تجاه ما يمارَس ضد رئاسة الجمهوريّة، وقد تساءل هذا المصدر قائلاً لماذا انتفض صاحب الغبطة الآن ولم ينتفض من قبل حين تمّ لفت نظره إلى أنّ الحقوق المسيحيّة مهدّدة في الدولة، ويفترض به أن يلوّح بالوثيقة الوطنيّة الصادرة عن البطريركية ويلزم المسيحيين بها قبل سواهم بمضمونها القائل بوجوب تأمين المناصفة الفعليّة وانتخاب رئيس قويّ يمثّل الوجدان المسيحيّ بأكثريته المطلقة. فهي تقف في وجه سلّة مفتعلة في وجه مجموعة تسريبات بلغت عقل الرئيس برّي ومسمعه، الذي كشف في ردّه، عن سلّة للأشخاص كان للبطريرك أن يقترحها (وهذا ما لفت المراقبين في الرد)، وكأنّه أشار بصورة غير مباشرة انّ البطريرك الراعي كان عاملاً وعامدًا على قطع الطريق في وجه وصول العماد ميشال عون إلى الرئاسة، وسلّة فيها مجموعة أفكار مطروحة للنقاش وهي المعبر الرصين بحسب برّي للوصول إلى الرئاسة. وعلى الرغم من ذلك، فالسلّة المطروحة من قبل الرئيس برّي  من شأنها أن تقف في وجه وصول رئيس قويّ للرئاسة بالمواصفات التي اقترحها ويقترحها المسيحيون، بعكس ما رأى بعضهم. وفي كلّ الأحوال يرى المصدر السياسيّ بأنّ التسوية لا تعثّرها تلك العظة أو تعرقلها، بل ما يعرقلها هو المضمون المتراكم في لبنان كنتيجة للعواصف في المنطقة، تفضي الى مجموعة صرخات واحتجاجات. فلبنان في هذا العنوان الرئاسيّ المتصّل بمجموعة مضامين أمنية واقتصاديّة، وسط صراع فعليّ وهائل بين اللبننة من جهة والعربنة والأقلمة والدولنة من جهة ثانية. وفي معلومات واضحة تم التداول بها بأنّ الدول التي اجتمع سفراؤها في لبنان تحت عنوان الاستحقاق الرئاسيّ وناقشوه، لم يصلوا إلى فهم واحد ويبلغوا قراءة واحدة في الجوهر والمظهر، وقد فُهم من مصدر دبلوماسيّ أجنبيّ رفيع المستوى أنّ ثمّة عقبات كأداء تحول دون تحقيق الانتخابات الرئاسيّة في المدى المنظور الحاليّ أهمّها:

1- استمرار الصراع في سوريا وهو على اشدّه. ولبنان ليس جزيرة معزولة عن الأحداث في المشرق العربيّ كما قال أمين عام اللقاء الأرثوذكسيّ مروان أبو فاضل في حديث تلفزيونيّ له، وقد تمّت الإشارة غير مرّة بأن القوى المتقاتلة في لبنان هي عينها المتقاتلة في سوريا، فهل يعقل أن تتفق في موضوع الاستحقاق الرئاسيّ وتحترب في سوريا والعراق؟

2- المرشحان لرئاسة الجمهوريّة ورئاسة الحكومة مرتبطان بآفاق الصراع. فعون صديق لسوريا والحريري يعتبرها عدوته، عون سوّغ قتال حزب الله للتكفيريين في سوريا والحريري رافض في المبدأ لهذا التسويغ، عون حليف استراتيجي لحزب الله والحريري خصم استراتيجيّ له، بمعنى أن كليهما مرتبطان بآفاق استراتيجيّة تربط الداخل بالخارج فهل يملكان القدرة على الاتفاق في المدى المنظور وجوهر الاتفاق البيان الوزاريّ للحكومة؟

3- عدم قدرة الأفرقاء السياسيين الاتجاه نحو لبننة الاستحقاق الرئاسيّ والعناوين السياسيّة الأخرى، ذلك أنّ البننة تقتضي تحييد لبنان عن الصراع في سوريا، والتحييد يتطلّب أن ينسحب مقاتلو حزب الله إلى لبنان، فلا هذا من حيث المبدأ وارد عند السيّد حسن نصرالله ولا هو ايضًا وارد عند العماد ميشال عون.

4 – لبنان منذ تاريخ تأسيسه كدولة إلى الآن محكوم بتوافق داخليّ يتأسس على مفهوم الإمساك الخارجيّ لاستقراره الماليّ والأمنيّ والسياسيّ بتسويات تملى على اللبنانيين ولا يبدعونها بقراءاتهم ومحاورتهم لبعضهم بعضاً، بدليل فشل طاولة الحوار في الوصول إلى حلول تنطلق من توحيد المفاهيم السياسيّة بين جميع القوى، وبدليل آخر وهو أنّ اتفاق الدوحة جاء إملائيًّا كما اتفاق الطائف ايضًا. القرار السياسيّ في لبنان صنيعة توافق دوليّ- إقليميّ- عربيّ، ولم يكن يومًا صنيعة اللبنانيين. ويعتقد المصدر السياسيّ بأنّ ثمة فرصة ممكنة وإن كانت ضيّقة سببها أنّ الدول لم تضع الاستحقاق الرئاسيّ على سلّم أولوياتها بل هي منشغلة بصراعاتها في سوريا والعراق والبحرين واليمن، ومنشغلة بإنضاج تسوية تكوينيّة تعنى بالمنطقة ككلّ. اللبنانيون بإمكانهم أن يقتنصوا اللحظة الذهبيّة زيتلقفوا الفرصة النادرة ويسعوا إلى تحقيق هذا الانتخاب بالشروط الموضوعيّة الموضوعة له، المهم أن يكون للبنان رئيس للجمهوريّة قويّ خلال هذا الشهر وإلاّ فإنّه سيتجه إلى مزيد من التفلّت الأمنيّ والاقتصاديّ ضمن هذا الصراع التراجيديّ والكبير.مصلحة اللبنانيين أن تنتصر اللبننة…. وإلاّ فالسلام على لبنان وجمهوريّته وقد تمزّقت أشلاء.

الراعي: كيف يقبل مُرشح الرئاسة ذي كرامة أن يُعرّى من مسؤوليّاته الدستوريّة

سأل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في عظته يوم الاحد الماضي  «كيف يقبل اي مرشّح للرئاسة الاولى، ذي كرامة وادراك لمسؤولياته، ان يُعرّى من مسؤولياته الدستورية، بفرض سلّة شروط

عليه غير دستورية، وان يحكم كأداة صمّاء؟ هذا اذا ما كان الامر للمماطلة بانتظار الوحي وكلمة السرّ من الخارج».

… وبرّي يردّ: بين سلّة للأشخاص وسلّة الأفكار أترك للتاريخ أن يحكم

أدلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، جوابا على ما صدر عن البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي، جاء فيه: «أما انك أخفيت مما اعلنت فإني اعلن ما أخفي: بين سلة للاشخاص التي اقترحتم وسلة الافكار التي قدمتها في الحوار، أترك للتاريخ ان يحكم أيهما الدستوري وأيهما الاجدى من دون الحاجة للمس بالكرامات، وكرامتنا جميعا من الله».