ما قالته النائب ستريدا جعجع في جلسة خاصة وتناولت فيه أبناء زغرتا في معرض سردها لواقعة مرّعليها ربع قرن، يعد خطأ فاضحاً ولكنه من المؤكد خطأ غير مقصود، وستريدا نفسها لا تقبل به وليست راضية عما صدر عنها «في هفوة منها»، وجل من لا يخطىء والله وحده جل عن الخطأ في فعله وآمره …
اذن لنقل أن في الأمر زلّة لسان، ومن يعمل في السياسة لا يسلم من اخطاء وزلات، لكنها احسنت الفعل عندما تحلّت بشجاعة الإعتذار الصادق عن كلام لم تكن تقصده ولم تقصد من ورائه أي استفزاز وإنما كانت على الأرجح تشير الى حقبة كانت فيه هذه العقلية سائدة وهذا النمط من التفكير «المناطقي» موجود.
أعود الى كلام ستريدا جعجع عن تعمّد، لكن ليس للإضاءة على الجانب السلبي فيه والذي جرى تطويقه سريعاً، ولكن للإضاءة على الطريقة التي تصرّف بها أصحاب العلاقة وأدّت الى قطع الطريق على أي محاولة لاستغلال ما حدث وتخريب وإفساد ما كان تحقّق من تقدّم على صعيد طيّ صفحة الماضي الاليم وفتح صفحة جديدة وإكمال المسار التصالحي الذي بدأ في بكركي وتحت رعايتها وبتشجيع منها.
وهنا وبقدر ما كان الإعتذار الشخصي الصادر عن ستريدا جعجع مهماً وضرورياً، كان الإعتذار السياسي الصادر عن رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع أهم واقوى.
فأن يتحدّث «الحكيم»عن «ساعة تخلّي» مرّ بها «الشمال المسيحي وعن استشهاد طوني بك فرنجية وزوجته وابنته» وعدد من رفاقهم فهذا في حدّ ذاته تطوّر ايجابي وخطوة مهمة على طريق تكريس وترسيخ المصالحة التي شهدنا فصولها الأولى في بكركي ولكنها لم تصبح نهائية ومكتملة، وإنما ما زالت في حاجة الى تعزيز عنصر الثقة بين الطرفين وتعميق الأواصر والصلات.
فإذا كانت ستريدا اعترفت بـ «خطأ» غير مقصود في كلامها فإن «الحكيم» اعترف بخطيئة مميتة في «ساعة تخلٍ»، وتتحمّل مسؤوليتها ظروف ومرحلة أكبر منه.
وبالنتيجة فإن سمير وستريدا جعجع بما يمثلان عكسا في موقفهما وردّة فعلهما رغبة صادقة في التمسّك بالعلاقة التاريخية بين بشري وزغرتا وفي إكمال ما بدأ على صعيد تحسين وتوطيد العلاقة بين «القوات اللبنانية والمردة».
موقف سليمان فرنجية وفروسيته
لكن يجب علينا الاعتراف ان الفضل الاكبر والاساسي والاهم لتهدئة الامور وحصرها وتطويق ذيولها يعود للزعيم سليمان فرنجية الشهم والفارس والصديق الذي أمام موقفه أتوقف ملياً وبكل احترام لاقول:
1- لم يتصرّف سليمان فرنجية بإنفعال ولم تنل منه المشاعر والإنفعالات والغرائز وإنما تصرّف بكل هدوء ومسؤولية وحكمة.
2- وضع كلام ستريدا طوق جعجع في إطاره الصحيح والمحدود.
3- لم يسمح بأي استغلال وتوظيف سياسي من اجل شدّ العصب شعبيا وانتخابيا، وإنما شدّد على عدم السماح بعودة عقارب الساعة الى الوراء أو بتسميم الأجواء والعلاقات في «الشمال المسيحي» أو بوقف مسار المصالحات والحوار والتواصل… واكتفى سليمان طوني فرنجية بطلب الإعتذار، وكان له ما أراد وأكثر.
ولأنه رجل شجاع وشهم يقدّر المواقف والقرارات الجريئة فإنه لن يقف عند حدود قبول الإعتذار وتجاوز الإشكال واعتباره منتهياً، وإنما سيبادر الى تفعيل خطوط العلاقة بين «المردة والقوات» والى شحنها وإعطائها قوة دفع جديدة، وذلك انطلاقاً مما جرى وأدى الى نتائج عكسية بفضل فرنجية وموقفه العاقل والحكيم.
وإذا كان من مثل يقول «ربّ ضارّة نافعة» فإن كلام النائب ستريدا جعجع سيؤدي الى تسريع وتيرة الاتصالات وعملية بناء العلاقات بين «القوات والمردة»، لأن الطريقة التي تصرّف بها الطرفان كفيلة ليس فقط بتصفية ذيول هذا الإشكال وإنما ايضاً بتصفية ما كان متبقياً من رواسب الماضي وتصفية القلوب والنوايا بعدما برهن الطرفان عن نوايا طيبة واستعدادات ايجابية وتوجهات صادقة.
سليمان فرنجية الوطني في سياسته وسلوكه، عرف ويعرف كيف يوفق بين وطنيته و«مسيحيته» وكيف يترجم القيم المسيحية، المحبة والتسامح والغفران، الى واقع معاش.
سليمان فرنجية رجل الموقف، ورجل الكلمة إذا تكلّم، والوعد إذا وعد، والإلتزام إذا التزم…
وهذه ليست المرة الأولى التي يكون فيها لسليمان فرنجية موقف مسؤول ووقفة مشرّفة ولن تكون الأخيرة، هذا في أساس شخصيته وتكوينه وطباعه.
ليس المجال هنا لإمتداح فضائل سليمان فرنجية، وإنما للتذكير بمسار ثابت سلكه وخط سياسي انتهجه ونهج إنساني اعتمده، وفي أساسه الترفّع عن الأحقاد والضغائن والصغائر.
سليمان فرنجية في ادائه العاقل والوطني هذا يكسب ولا يخسر، ويريح الجو المسيحي العام، ويبقى الثابت وسط متغيرات، ولا يتحرك صعوداً وهبوطاً تبعاً لتغيّر الأحوال والأزمنة كونه لم يكن يوماً ارتجالياً أو مزاجياً في سياسته ومواقفه… سليمان فرنجية لم يتغيّر وبقي هو هو.
لم يستقوِ بالنظام السوري يوما عندما كان في أوجّهه وعندما كان لبنان تحت حكم الوصاية… ولم يضعف بعد خروج السوريين من لبنان مثبتاً أنه يستند الى رصيد عائلي وشعبي كبيرين والى قوة ذاتية وحيثية سياسية وشخصية مستقلة هي مصدر قوته وتميّزه وسرّ صموده وثباته.
ولأنه كذلك، لنا ملء الثقة بسليمان فرنجية وبأنه حريص كل الحرص على «الشمال المسيحي»، وإنه سيكمل ما بدأه على صعيد إنجاز عملية المصالحة والتفاهم بين «المردة والقوات اللبنانية» وعلى قاعدة تعميم ثقافة الحوار وتكريس التنوّع والتعدّدية على الساحة المسيحية التي لا تحتمل آحاديات ولا ثنائيات…
في الختام نتطلع كما كثير من المخلصين المسيحيين الى اليوم الذي نرى فيه المسيحيين يدا واحدة متفقين موحدين، فالساحة تتسع لجميع الاحزاب المسيحية دون استثناء (تيار – قوات – كتائب – مردة – احرار – كتلة وطنية) كما تتسع الى كل المذاهب المسيحية الاخرى، والى العائلات السياسية التي اعطت هذا الوطن والى كل مخلص في لبنان، وهي لا تتحمل احاديات وثنائيات وتفرد وانانيات ومن له اذنان سامعتان فليسمع.