في العام 1926 وُضع أول دستور للجمهورية اللبنانية بإشراف لجنة من رجال الفكر والسياسة، كان على رأسهم المفكر السياسي الكاتب اللبناني ميشال شيحا الذي ما إن فرغ من وضع المسودّة وقراءتها على مسامع أعضاء اللجنة حتى قال: «يا سادة هذا دستور لبنان المكتوب… أما دستوره الحقيقي غير المكتوب فهو إن لبنان لا يُحكم إلاّ بالتسويات وأنصاف الحلول».
ميشال شيحا،«بيّ الدستور» (اللبناني) قال هذا الكلام المهم في العام 1926 إثر الإنتهاء من تدوين نصوص مقدّمة ومواد الدستور اللبناني الذي كان من أوائل الدساتير التي اعتمدتها الدول في هذه المنطقة من العالم. أي قبل نيل الإستقلال في العام 1943 بنحو سبع عشرة سنة، وقبل «جلاء جميع الجيوش الأجنبية عن لبنان في العام 1946 بعشرين سنة».
ويبدو أن القوم عندنا أسقطوا النص نهائياً منذ ذلك الحين، وتمادوا في تفسير و… تنفيذ كلام شيحا الذي يجب الإقرار له بأنه على حق من حيث المبدأ. فكل مرة لم يعتمدوا التسوية كانت «التقليعة» صعبة إن لم نقل مستحيلة، وكانت الأزمات تتراكم حتى يكون الإنفجار… ولدينا من الأمثلة طوال تاريخنا المعاصر ما لا يُحصى ولا يُعد!
وبالفعل فقد اعتمدت التسوية في الأزمات الكبيرة: «لا شرق ولا غرب» في ميثاق 1943، و»لا غالب ولا مغلوب» في تسوية 1958، و»لبنان واحد لا لبنانان» في أحداث 1975. وشعار الرئيس المرحوم الحاج حسين العويني الأثير: «هيك وهيك»، بعد شعار العهد الشهابي: «6 و 6 مكرّر» الخ…
إن أحداً لا ينكر أنّ وصول الرئيس ميشال عون الى سدة رئاسة الجمهورية جاء نتيجة تسوية كبرى ضمّت تسويات أصغر عديدة: من التوافق المباشر بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، الى التوافق بين الجنرال عون والرئيس سعد الحريري الى مشاركة حزب اللّه في هاتين التسويتين بصورة غير مباشرة من خلال قبوله بمفاعيلهما.
وإنّ أحداً لا يُنكر أنّ وصول الرئيس سعد الحريري الى السراي الكبير هو أيضاً نتيجة التسوية تلك معطوفاً عليها تأييد الرئيس نبيه بري والوزير وليد جنبلاط.
وبالتالي فإنّ أحداً لا يُنكر، كذلك، انّ عدم وصول الوزير سليمان فرنجية الى رئاسة الجمهورية هو نتيجة فشل التسوية التي عملوا عليها داخلياً وخارجياً. ولقد ثبت باليقين الملموس أنّه حتى التوافق الخارجي الكبير على فرنجية عاجز عن تحقيق الهدف في غياب التسوية الداخلية.
واليوم لا يبدو، في الأفق، أنّ هناك تسوية على قانون الإنتخاب… ولهذا السبب يتعذر إنتاج قانون جديد حتى هذه اللحظة على الأقل… وفي الوقت ذاته تبدو الأبواب موصدة أمام الحلول كلها (يُفهم أمام الصيغ كلّها) في غياب التسوية.
وهذا كله يشير الى أنّ التسوية التي «شرعنها» العرف (وفق ما قاله ميشال شيحا بصراحة كاملة) لا تزال سارية المفعول وبامتياز … ويشير في الوقت ذاته الى أنّ «فضائل» التسوية تقابلها رذائل عديدة أبرزها أنّ التسوية تناقض المبدأ الديموقراطي إذ إن قانون الإنتخابات يمكن إقراره في جلسة نيابية يكتمل نصابها بـ65 نائباً (نصف الأكثرية المطلقة زائداً واحداً) ويمكن أن يعتبر قد «صُدّق» إذا صوّت عليه 33 من أصل الأكثرية القانونية لاكتمال النصاب. وهذه الأكثرية يمكن تأمينها لأي قانون انتخاب… ولكن مبدأ التسوية يكون قد سقط… وهذا ما لا يسعى إليه أي فريق.
…فما على اللبنانيين سوى الإنتظار المربك.