Site icon IMLebanon

ما بين ساحات 2005 و2019

 

إنقضت الساعات الـ72 التي أعطاها الرئيس سعد الحريري لنفسه ولحلفائه وشركائه في الحكومة للتجاوب معه «وإلا «سيكون له كلامٌ آخر». الكلام الآخر الذي اعتقدنا أنه سينهي حقبة التمرد والإستئثار والذي وصلت أصداء نقاشاته الى كلّ ممرات القصر الجمهوري وتلاه الحريري  بعد اجتماع الحكومة أظهر عدم إمكانية انتصار المنطق الإصلاحي  على المنطق الآخر، منطق الإستئثار وتجاوز مطالب المواطنين.

 

ربما اعتقد الرئيس الحريري إنّ تلاوته للورقة الإصلاحية قد تُفضي عليها بعض الصدقيّة، أو تجعله يستعيد بعضاً من الثقة المفقودة، ولكن نظراته وعباراته المنتقاة عبّرتا عن رغبة في استدرار عطف مئات آلاف من المواطنين المتجمعين في أكثر من ساحة من لبنان، اعتادوا سابقاً على الهتاف باسمه ورفع صوره حين كان عنواناً لأمانهم. الحريري الذي إعترف في بيانه أنّ الإصلاحات ليست بمستوى نبض الشارع وآمال المتظاهرين ولا هي دعوة لهم للخروج من الساحات، بدا وكأنه يحاول دعوتهم للإستمرار في التظاهر علّ ذلك يقدّم له المزيد من الفرص لإعادة التوازن المفقود الى موقعه الحكومي.

 

ما أبعد الأمس عما قبله، فالحزب التقدمي الإشتراكي لم يكن موفقاً كذلك في محاولته تبرير استمراره في الحكومة باستعراض ما استطاع إدخاله على الورقة الإصلاحية لرئيس الحكومة وما لم يستطع إدخاله نتيجة ما أسماه وجود وزراء فوق القانون ووجود قضايا محظورة لا يمكن مناقشتها. «المنازلة الإصلاحية» التي خاضها الوزير وائل أبو فاعور لم تفضِ الى ما رامه حزبه من خلال اقتراح تعديلات على ورقة الحريري. لم يستطع الحزب التقدمي الإشتراكي تمرير مسألة إخضاع المناقصات العائدة لمؤسسة كهرباء لبنان لدائرة المناقصات وديوان المحاسبة، ولم يستطع فرض تعيين هيئة ناظمة أو مجلس إدارة في مؤسسة كهرباء لبنان، ولم يستطع كذلك تعديل الموازنات المتعلّقة بتكاليف سفر الوفود التي تُدفع مرتين، مرة عبر المالية العامة ومرة أخرى من ميزانية السفارات، ولم يستطع فرض الإلتزام بتوقيع مراسيم الناجحين في مجلس الخدمة المدنيّة ولا التعرّض لآلية التعيين العشوائي المعتمدة في سبيل مزيد من الزبائنيّة السياسية وتعطيل المؤسسات الرقابية. كل الحجج التي ساقها الوزير وائل أبو فاعور والتي اختتمها بأنّ الحزب مستمر في الحكومة وهو يحاول الإصلاح من الداخل، جاءت دون المستوى المطلوب ولا تنسجم مع تاريخ الحزب التقدمي الإشتراكي ولا مع المسار الذي اعتمده الحزب على لسان رئيسه وليد جنبلاط منذ ارتسمت علامات الصدام مع الهيمنة المتّبعة من قِبل الفريق الحاكم والتي كان آخرها المظاهرة التي نُظمت منذ أقل من أسبوعين وضمّت الآلاف وألقى في نهايتها أبو فاعور في ساحة الشهداء خطاباً حمل فيه على العهد ورموزه ووزرائه وكل ممارساته.

 

علام استند الحزب التقدمي الإشتراكي في تسويقه لنظريته في الإصلاح من الداخل وهو الذي يعرف حق المعرفة أنّ إمكانية السير بطريق الإصلاح ومحاربة الفساد شبه معدومة مع الفريق الحاكم الذي يهوّل بحليفه في دمشق بالإضافة الى ظهيره الإقليمي حزب الله. فالأمور مرشّحة الى مزيد من الإنحدار، والمواجهة التي يحاول وليد جنبلاط تجنّبها سواء لعدم ملاءمة توقيتها أو لعدم ثقته باللاعبين الدوليين والإقليميين، هي حاصلة دون شك ليس على مستوى المؤسسات ولا على مستوى الشارع فقط بل ربما تتّخذ أشكالاً أكثر دراماتيكية. لقد أشار الوزير أبو فاعور متوجّهاً الى التيار الوطني الحر «بأنكم لا تدرون ماذا يجري في الشارع…» ولكن الفريق الحاكم يؤثر الذهاب بالأمور الى النهاية وهو يريد المواجهة ليس في الشارع مع المتظاهرين بل مع كل الخصوم السياسيين، وربما تأخذه عنجهيته الى مغامرة يعتقد أنّه قادر على خوضها في ظلّ متغيّرات إقليمية يراهن عليها.

 

ربما من المفيد التذكير أنّ ساحات تشرين الأول 2019 تختلف عن ساحات آذار 2005. في آذار 2005 انقسم اللبنانيون الذين ينعمون بازدهار إقتصادي ورعاية دوليّة، بين فريق يريد تحرير الوطن من سلطة وصايةٍ جاثمةٍ على مصيره، تقيّد حريته وتفرض عليه نماذج سياسية مرتهنة لها، وفريق يجاهر بالإنتماء الى محور إقليمي قادر على التأثير، وفي هذا نوع من الترف السياسي. أما في ساحات تشرين أول 2019 فاللبنانيون بمعظمهم فريق وحّده الفقر يحاول التحرر من سلطة فاسدة تقاسمت الثروة الوطنية. كما أنّ لا مركزية الحراك المتوزّعة في أكثر من ساحة على امتداد لبنان يجعل من المتعذّر تطويقه وإجهاضه بمجرد احتلال الوسط التجاري. تطويق ساحات الوسط التجاري لن يُسقط ساحات طرابلس والبترون وجلّ الديب وصور وسواها من الساحات.

 

إنّ التهديد بإسقاط الحراك من أي جهة أتى لن يتمكّن من بلوغ أهدافه، ففريق السلطة لن يستطيع إكراه القوات المسلّحة على تحرير الساحات وإخلائها من المحتجين، وهذا ما أظهرته وقائع ليل الأمس في بيروت، كما أنّ البيئة الحاضنة لحزب الله وحركة أمل، التي دفعها واقعها الإجتماعي والإقتصادي الى التمرّد والتي كانت السباقة في تشكيل ساحات الإعتراض في صور والنبطية وبيروت، لم تعدّ جاهزة للإستخدام وتحت أي عنوان لمهاجمة الساحات وتهديد استمرارها. إنّ الأيادي التي اشتبكت في الساحات على مدى الأيام الخمسة أسقطت لدى اللبنانيين الخوف من الآخر الذي ترعرع على سرديات الميتولوجيا الدينية، وضرورة تحمّل الفقر والخنوع والإستكانة لحماية المعتقد الديني المهدّد. إكتشف اللبنانيون في الساحات أنّ هذا الآخر هو أكثر خوفاً منهم وأكثر فقراً وأكثر قلقاً على المستقبل.

 

أسقطت الأزمة الإجتماعية الخانقة وهج محور طهران – دمشق لصالح محور صور – بيروت – طرابلس،  ومحور النبطية – مرجعيون – راشيا ومحور بعلبك – الهرمل وسواها من المحاور التي جمعت اللبنانيين، على اختلاف إنتماءاتهم، تحت علم واحد وموقف موحد من فشل السلطة وعدم الثقة بها. إنّ  المارد الشيعي الذي قال عنه الرئيس بري بعد انتفاضة 6 شباط أنّه خرج من القمقم ثم استُخدم في مشروع استباحة الوطن لصالح مشاريع وقوى إقليمية، خرج هذه المرة من قمقم الطائفية والمذهبية وقمقم تجاوز القانون وإرهاب الآخر لصالح الوطن ولغير رجعة.

 

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات