في زمن الجيوش المذهبية في العراق، وحروب الإبادة والتهجير التي يُساق إليها الشباب اللبناني، منذ حجّة الدفاع عن المراقد في سوريا الى الزعم بأن طريق القدس يمرّ فيها، اضافة الى جنون التطرّف والإرهاب على مساحة المنطقة، يقف سعد رفيق الحريري على خط الصدع الزلزالي الممتد إلى لبنان ليقول لـ»بيئته» ولكافة اللبنانيين ما هو السبيل الواجب اتّباعه في هذا المرحلة.
على خط الصدع نفسه وقف الأمين العام لـ»حزب الله« السيّد حسن نصرالله قبل يوم واحد ليدعو شباب طائفته إلى دخول الدوامة، زاعماً أن القدس في آخر الطريق. وعلى الخط نفسه يقف تجّار الإرهاب ليقترحوا على السُنّة طريقاً للانتحار والتمزّق في حرب عبثية. بدا خطاب الحريري أمس الأول بديهياً ومتوقعاً، لكنه ليس سهلاً على الإطلاق. ليس سهلاً الإصرار وسط كل هذا الجنون على أن هناك مستقبلاً واحداً للبنانيين معاً، بعيداً من حروب المقاولة والمظلوميات المفتعلة لخدمة مصالح عائلية هنا ومشاريع إمبراطوريات هناك. ليس سهلاً إقناع بيئته، التي تعاني الشعور بالقهر، بأن هناك ما يمكن المراهنة عليه لتجنّب مصير أبناء جلدتها في عمقهم العربي، غير السلاح والتطرف والميليشيوية.
خطابان وطريقان. خطاب للسيّد نصرالله، إختار فيه السير على طريق القدس الذي يمر على أشلاء السوريين، ويجرّ إليه مناصريه وبيئته الى مستنقعات دماءٍ لا تجفّ. وخطاب للرئيس سعد الحريري، اختار فيه سلوك طريق الدولة التي تمر بمؤسسات الدستور والقانون. الاول يطالب بتحييد لبنان عن صراعات المنطقة، فيترجم دعوته هذه بابتداع طريق للوصول الى القدس عبر الزبداني وحمص وحلب والحسكة والسويداء ودرعا. والثاني يدافع عن شباب تتم التضحية بأرواحهم لتحقيق اهداف حزبٍ وقف مع نظامٍ على صفيح من الدم والدمار. الاول استمات في الدفاع عن إيران، آخذاً لبنان واللبنانيين رهينة سياسات «الولي الفقيه» وطموحاته في بناء امبراطورية فارسية على اشلاء العرب. والثاني دافع عن لبنان، بطوائفه ومذاهبه وتعدّديته، تحت سقف القانون. الاول قرّر ان يحارب الارهابيين بالتسويق لميليشيات مذهبية على حساب الجيوش العربية (الحشد الشعبي-انصار الله-اللجان الشعبية- لجان الدفاع الوطني). والثاني يحارب الارهاب بتعزيز دور الجيش والمؤسسات الامنية الرسمية الجامعة. الاول يضع فيتوات على مرشّحين للانتخابات الرئاسية، ويفرض آخرين، ويمتنع حزبه عن حضور جلسات الرئيس، ومن ثم يعلن حرصه على الرئيس والرئاسة. والثاني لا يضع فيتوات، ويُبقي الابواب مفتوحة للتوافق، وتحضر كتلته النيابية كافة جلسات الانتخاب حفاظا على الرئيس المسيحي الاول في لبنان والوحيد في المنطقة. الاول يراهن على متغيّرات في الميدان السوري وينتظر نتائج المفاوضات النووية ليفرض أجندته على الداخل. والثاني يدعو للعودة الى التواصل السياسي للاتفاق على مخارج عملية لمآزق البلد بعيداً من أحداث المنطقة. الاول يدافع حزبه عن ميشال سماحة، المُعترِف بنقل المتفجرات من سوريا الى لبنان لاغتيال شخصيات سياسية وإحداث فتن. والثاني يعترف بخطأ أمني كبير حدث في سجن رومية ويطالب بمحاسبة المسؤولين وفقاً للقانون. الأول يتستّر على الخارجين عن القانون ويرسلهم الى مستوطنات يبنيها في الداخل السوري. والثاني يدعم مهمّات الجيش اللبناني في عرسال وطرابلس وصيدا وعكار لصدّ محاولات الاستخبارات السورية وأذرعها في لبنان لتفريخ جماعات متطرفة تُغرق هذه المناطق بمسلسل من الفتن والفوضى والنزاعات المسلّحة. الأوّل يتحدّث عن مؤتمرات تأسيسية. والثاني يتمسّك بالطائف الذي أوقف سنوات الحرب والدم والدمار. الأوّل يموّل ويشرّع ميليشيا «سرايا المقاومة» للعبث في القرى والمدن حين تقتضي ضرورات المشروع الإلهي. والثاني يرفض أن تكون الميليشيا ملعبه، وأن يشارك تياره السياسي في ألعاب الدم بين الاخوة. لم ترَ المنظومة الإعلامية لـ»حزب الله« اي جديد في خطاب الحريري. بينما الجديد هو الثبات على هذه الخارطة في زمن المتحوّلات الدموية في المنطقة. ليس سهلاً أن يحافظ الحريري على ثوابته في زمن الجنون والانتحارات الجماعية. ليس سهلاً أن يقنع بيئته، التي ترى الأعلام الإيرانية وأعلام الميليشيات المذهبية تُرفع على المسجد الأموي في دمشق، بألّا تتطرف. ليس سهلاً أن يقنع جمهوره، في ظل الحروب المذهبية القذرة، بالصمود على ضفة الاعتدال. ليس سهلاً أن يقنع البعض المتعطّش في بيئته لتشكيل ميليشيا تحميه من ميليشيات اخرى، بثوابته الوطنية. ليس سهلاً أن يقنع المسيحيين، ممّن يخشون على مستقبلهم، بعد أن هجّرهم «داعش« بداية من الموصل، قبل أن يُكمل الحشد الشعبي المهمّة، أن لبنان وطن نهائي لجميع ابنائه. حتى خصمه السياسي في لبنان والمنطقة يقول لجمهور الحريري: «تطرّفوا»! كيف لا والحشد الشعبي الذي يريد نصرالله تعميمه هو الخدمة الكبرى والمبرر العملاني لوجود «داعش« وأخواته. هل يحلم ابوبكر البغدادي بأكثر من ميليشيا مذهبية تدفع الناس إلى تفضيل ظلاميته على إجرامها؟
لطالما كان التحدي الأصعب للسياسي السني في لبنان أن يكون قائداً وطنياً. كان ذلك قدر رفيق الحريري. هذه الأيام، ما من تحدٍّ أصعب على السياسي في لبنان من أن يعبر الطوائف ويصبح قائداً وطنياً في لبنان. ذاك قدر سعد الحريري، الذي يحاول جاهداً إقناع بيئته واللبنانيين بتحييد لبنان قولاً وفعلاً عن مشاريع التكفير والارهاب بكافة أشكاله ومنطلقاته الداعشية والإيرانية. هذا ليس من حسن حظ السنّة فقط، بل من حسن حظ المسيحيين الذين لا يوفر البعض فرصة لاختراع مشكلة لتحريضهم، ومن حسن حظّ الشيعة أيضاً، الذين يسوقهم نصرالله إلى الموت.