IMLebanon

بين خطابين

المكابرة والكيدية وفعل النكاية صفات يتّسم بها خصوم تيار المقاومة في لبنان والمنطقة. وهي لا تعبّر عن حقد أو عجز فحسب، بل تؤشر الى حال من القصور السياسي. وها نحن، من حيث نرغب أو لا نرغب، سنضطر الى المقارنة بين خطابين، كما هي حالنا في كل شباط من كل عام. وفي هذه الحال، لا مجال للمجاملات أو مراعاة الخواطر، بل لا مجال إلا للأخذ بالعناصر الجديدة من المعادلات المتشكّلة أمامنا، وهي معادلات تسمح لنا، في كل مرة، بالتمييز بين الصغير والتابع والقاصر، وبين الكبير والمستقل والناضج. بين ما قاله الرئيس سعد الحريري من جهة، وما قاله السيد حسن نصرالله من جهة ثانية، لأن الآتي من الأيام يفرض علينا اتخاذ الموقف الذي لم يعد يتحمّل المداورة والمناورة.

في الشكل، بات لزاماً على الرئيس الحريري إدخال تعديل جوهري على آلية إعداد خطابه. يقول الذكوريون إن إصلاح علب الليل المتعثرة يحتاج الى تغيير بنات الليل لا الى تغيير الشراشف. وبات على الحريري التخلي عن كتبته، وإحالتهم على تقاعد سريع، وإلغاء عقود الخدمات غير المجدية مع شركات التواصل مع الجمهور. وليس من باب المزاح، يمكن الحريري أن يحدث فرقاً كبيراً جداً لو أنه استعان فقط بالممثل وسام سعد (أبو طلال الصيداوي) الذي سيمنحه شفافية وصدقية وفعالية تحاكي غالبية شعبية لا تهتم بالمسرح المفتعل والاضاءة البراقة، بينما لا يعلق في ذهنها كلمة واحدة من الخطاب.

يمثّل الحريري فريقاً متلقّياً انفعالياً، بينما يمثّل السيد فريقاً واقعياً مبادراً من دون تهوّر

وفي المضمون، بات على الحريري العودة الى الناس، والتعامل مع الوقائع كما هي، لا كما يحلو له أن تكون، أو كما يرغب آخرون في أن تكون عليه. وهو إن فعل ذلك، فقد يبدو متواضعاً، لكنه، بالتأكيد، سيبني قصراً من حجر، لا قصوراً من الرمل لا تصمد أمام موجة صغيرة. وهو سيكون واقعياً عندما يرفع الشعارات ويضع المهمات، ولا يدفع جمهوره الى عوالم مفترضة، فيصطدم القوم بجدار الحقيقة، وتكون النتيجة الفشل ومراكمة الإحباط، لأن هذه الحالة تقود هذا الجمهور الى حيث الاستعراض الهوائي، الى حيث الجنون بعينه، هناك، حيث يقوم التيار التكفيري ببناء ثقافة الدم والموت على أطلال ثقافة الحياة التي ظلت الى اليوم مجرد لافتة وشعار لا أكثر.

ما قاله الحريري لا يعدو كونه كلاماً في الهواء لا يفيد في شيء. هو مضطر الى انتظار ما تقرره السعودية وأميركا وعواصم غربية وعربية وإقليمية. كذلك هو ليس قادراً على إجراء مراجعة يبين فيها أسباب الفشل، بدل إلقاء اللوم على الآخرين، ولا قادراً على محاسبة الذات، ولا محاسبة الأنصار والمقربين، فيلجأ الى المكابرة ومهاجمة الخصوم، مع إدراكه أنه لا يحقق أي نتيجة. ولذلك، فإن ما علق في أذهان الانصار والخصوم عبارتان، الاولى مبايعة ملك السعودية الجديد، والثانية إعلانه استمرار الحوار مع حزب الله. أما بقية الكلام، فلا سوق تصرف فيها.

لكن ماذا عن السيد؟

لا يزال للرجل توهّجه. يكفي التدقيق في حجم الاستنفار الشخصي والجمعي عند الاعلان عن موعد لخطاب له، حتى تدرك أن الناس تنتظر جديداً يقوله. ويكفي مراقبة استنفار خصومه حتى تعرف أن هناك ما لا يمكن تجاهله تحت أي ظرف. ثم إن الرجل صار أستاذاً في فن الخطابة، لكنه لا يتجاوز الاصول. فلا يترك لأحد أن يكتب له خطاباً براقاً، وهو ابن مدرسة علم الكلام، لكنه لا ينزوي بنفسه متجاهلاً الحقائق والمعطيات وعمليات التقييم وآليات إنتاج الموقف التي تقوم بها مؤسسة بكاملها، قبل أن يعمد هو الى صياغتها في عبارات أو عناوين مكتوبة تكون أساس خطابه، وهو يعرف كيف يخاطب ناسه والآخرين، وقادر على أخذهم الى حيث العقل، وبرغم احترامه الكامل لعواطفهم، لا يترك لانفعالاتهم أن تسيطر عليه.

لا يزال السيد مصدر تعبئة وإلهام لحشد كبير من المناصرين، ولجيش كبير من السياسيين والمتحدثين والمحللين، يرمي في وجههم عناصر التحدي للنقاش والتفكر والتبحر، ويزودهم بمواد للنقاش والتفسير والتعليق، ويعرض أمامهم معطيات ووقائع كانت غائبة عنهم، ويطلق المواقف التي تتحول الى زاد معنوي في مواجهة آلة الإحباط الضخمة المتنقلة في الفضاء. وهو، فوق كل ذلك، لا يتحدث من مكان بعيد عن الواقع، بل من قلب الحدث، لا يفوته تفصيل ضروري، ولا يتجاهل معطى ولو كان مضاداً لفكره واقتناعه، لا يهرب بعيداً عن الاستحقاقات الداهمة، ولا يحمل حجارة أكبر من حجمه. وفي كل مرة يعطي الدليل على أن ما يمثله إنما هو قوة صارت بفعلها أعلى بكثير من قامة البلاد والمحيط، وأن لموقفه ولعمل فريقه تأثيرات تتجاوز قدرات دول وأحلاف، وأنه يملك الصدقية الكافية لجعل كل خصومه وأعدائه، يتصرفون على أساس أن ما يقوله حقيقة يجب الأخذ بها، حتى ولو بقصد نسفها أو تغييرها.

لكنّ التمايز الأبرز بين الخطابين هو تلك القاعدة التي تميز بين نهجين وواقعين؛ يعكس الحريري حالة الفريق الذي يمثله، حالة من هو في موقع المتلقّي وصاحب الرد الانفعالي، بينما يمثل السيد نصرالله الفريق القادر على التعامل بواقعية مع ما يحصل، فلا يتهور ولا يقف متفرجاً، بل يمسك بالمبادرة، ثم يقيس خطواته بدقة، حتى إذا فعل، احتل كامل المكان.