لا يأخذ الإمعان في هتك المقدسات ذات الصلة الحميمة بالبشر وحقوقهم الأولى والبديهية، مداه خارج سردية لعبة المصالح وشروطها وفروضها.. تلك السردية التي تعتمدها مؤسسات الحكم والقرار في بعض الدول الحرة لتبرير سياساتها المخزية، وارتدادها عن القيم التي يُفترض أن تكون حارستها ومن رعاتها طالما أنها وليدتها أصلاً!
«الموضوع» السوري الراهن يبدو الأكثر تكثيفاً وتعبيراً عن سردية المصالح تلك. والتي لا تعني سوى تجاهل الجذر التأسيسي الذي جعل هذا العالم معقولاً وممكناً ومتآلفاً مع قانون البقاء «الحديث»! أي الذي يستبدل القبضات بالعلم والمعرفة. والقوة الغاشمة والعارية بالقانون وسلطانه، والاستبداد بالحرية المفتوحة على مداها.
قانون «البقاء للأقوى» يليق بالغابة وليس بالمجتمعات البشرية! لكن استخداماته لا تشترط تلك الغابة! أو هكذا يدلّ هذا التراكم في الارتكابات المحتقرة لكرامة الإنسان وحياته وحريته كما هو الحال في سوريا اليوم. وعند جلاوزتها وعناوين نكبتها. وكما يدل ذلك التراخي المتراكم بدوره، من مؤسسات النظم الليبرالية الحاكمة غرباً وشرقاً إزاء ذلك! حتى صار أو يكاد استخدام تعابير ومعايير مستقاة من قيم الحق والعدل والضمير وحقوق الإنسان نوعاً من الهلوسة أو دلالة على قصور ذهني يليق بالحالمين والواهمين ويوصم المصابين به بالبله أو العباطة الطافحة!
لا ينكر إلاّ الأحول، أنّ المجتمعات الحرة والمفتوحة تمرّ في نوبات كبرى تكسر شيئاً من ارتكازاتها وقيمها. وإن ذلك يعني السماح بتمدد هلع آني، متأتٍّ من هجرة خارجية أو أزمة اقتصادية أو انهيارات في سوق المال والبورصات، أو أعمال إرهابية صادمة وبغيضة، الى مراكز صنع القرار والتحكم بالسياسات العامة، تماماً مثلما هو حاصل راهناً في أكثر من دولة، بدءاً بالولايات المتحدة وصولاً الى أوروبا العتيقة!
لكن لا ينكر إلاّ أهل الاستبداد والرؤى الشموليّة ومدّعو القيام مقام ربّ العالمين على الأرض، ان آليات عمل النظم الحرّة والأسواق المفتوحة، تشتمل على العطب وأدوات معالجته في الوقت ذاته! وعلى الغلط وأساليب تصحيحه في الوقت ذاته! وعلى السقوط ورافعات الوقوف في الوقت ذاته! وإن ذلك في العموم، حقيقي وفاعل وطبيعي، بقدر حقيقة دوران الفصول الأربعة في الطبيعة الأم، وبقدر التماهي في الوجدان البشري بين الحياة والحرية.
بهذا المعنى، ليس غريباً، أن يصطدم دونالد ترامب بداهةً، بالإعلام والقضاء وأهل الإبداع والفن! بل الغريب أو الكارثة أن لا يحصل ذلك الاصطدام! أو أن تأخذ مارين لوبن غالبية الفرنسيين الى القبو الذهني الذي تعيش فيه! أو أن لا تخرج عريضة موقّعة من مئات المثقفين والكتّاب والباحثين والفنانين العالميين، كالتي نشرتها «ليبراسيون» الفرنسية، وأعادت هذه الجريدة نشرها بالأمس.. تدين جرائم بشار الأسد وتطالب بمحاكمته.
هذه العريضة هي إدانة مزدوجة: واحدة لأداء خارجي ومشين ومنحطّ، وثانية لأداء «داخلي» سلطوي ساكت عن ذلك الانحطاط ومتوجّس في العمق، من إمكانية تحوّل النكسات العابرة في النظام الحر الى ركائز تستبدل حقوق الإنسان بأسواق المال وقيم الحق والعدالة بلعبة المصالح وطقوسها البغيضة!