Site icon IMLebanon

إحذروا عصابات جَمع التبرّعات… والمتاجرين بإسم القدّيسين

دخَلت آية غ. خالية الوفاض منزلَ صفاء ع. بحجّة أنّها تجمع التبرّعات وتساعد الأرامل والمحتاجين، فخَرجَت وفي جُعبتها 500 دولار أميركي، و750 ألف ليرة، ومصاغ من الذهب عبارة عن جنزير عيار 22، وأونصة مع «سنسال» وثلاث أساور وخاتم. باسم الأرامل، باسم الإنسانية، باسم المعوّقين، باسم اللاجئين… وباسم القدّيسين. مع حلول الأعياد واقتراب العام الجديد، تنشَط حركة الأفراد والعصابات مُنتحلِي الصفة، والمدَّعين أنّهم يَجمعون التبرّعات للمعوزين… والنتيجة؟ ضروبُ احتيال بالجملة، سرقات، ومحاولات قَتل.

كانت صفاء وحدَها في المنزل، وهي مسِنّة، لحظة قُرع الباب عند السابعة مساء. «خير انشالله مين آخر هالليل»، نزَعت من يدها علبة الدواء ونهضَت بصعوبة وهي تُتمتم. لم تكد تسأل مَن على الباب، حتى رأت أمامَها إمرأةً سمراء البشرة، داكنة، ممتلئة البنية، على وجهها وحمة من الجهة اليمنى، تمتدّ من أنفِها حتى خدّها، شعرُها أسود. «نحن نساعد المحتاجين، المعوزين، المشرّدين… هل يمكنني الدخول؟».

لم تُنهِ السمراء جملتها حتى دخلت عتبة المنزل، من دون أن تُبديَ صفاء أيّ ممانعة، كلّ ما كان يهمّها، أخذ الدواء في موعده ولكلّ حادث حديث. ما إن استدارَت تأخذ علبة الدواء، حتى أصرَّت «الدخيلة» وبطريقة فضولية على إحضار كوب من الماء.

لم تكد صفاء ترتوي حتى شعرَت بدوخة، وعدم قدرة على الحركة، ولم تعرف ما إذا كانت «الدخيلة» وضعَت شيئاً في الكوب أو رشَّت مخدّراً على وجهها. بقيَت العجوز غير قادرة على الحركة نحو ساعتين، وما إن إستعادت نشاطها، تفقّدت محتويات منزلها، فتوجَّهت إلى غرفة النوم وتحديداً إلى خزانتها الشخصية، لتُفاجَأ بسرقة أموالها والصيغة المخبّأة في جوارب قطنية موضوعة داخل اللحاف.

تقدّمت صفاء بشكوى، وطلبَت الكشفَ على منزلها، قبل التعرّف إلى آية، بعد عرض صوَر أصحاب السوابق عليها. وقد تبيَّن أنّ صفاء لم تكن الضحية الأولى، فبحقّ آية تهَمٌ منذ العام 1995. وبعدما أخذت التحقيقات مجراها، حكمت المحكمة على آية بالأشغال الشاقة المؤقتة مدة 5 سنوات.

أساليب الابتزاز

فبركة بطاقة للصمّ والبُكم، تزوير «راشيتات» طبّية، التلطّي بأسماء جمعيات خيرية وهمية، الوقوف في محيط الكنائس والمساجد، بيعُ روزنامات، توزيع صوَر قديسين، القَرع على أبواب المنازل… تختلف الأساليب الاحتيالية التي يقع المواطنون ضحيّتها وتتنوَّع معها العناوين التي يستخدمها أصحاب السوابق، ما بين جَمع التبرّعات، إجراء فحوص طبّية وعمليات جراحية، إيفاء نذورات، لتتفاوتَ في موازاتها أرباحهم.

إلّا أنّ قضية مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة تبقى العنوان العريض الذي يُرتكب بحقّه سَيلٌ من عمليات ابتزاز وجمع التبرّعات لمصالح شخصية، سواءٌ من أفراد أو عصابات.

ومِن بين ضروب الاحتيال ضبط الرجلين: ف. خ، م. ح، والمرأتين: ن. ف، ل. م. بعدما احتالوا على المواطنين عبر جمع تبرّعات تحت ستار تأليفهم جمعيةً خيرية. فقد استغلّت هذه العصابة تعاطفَ الناس مع قضية مساعدة المعوّقين، وزوَّرَت بطاقات تعريف بأسماء تشير إلى أنّ المتطوّع المزعوم ينتمي إلى طائفة معينة تمَكّنه من جمع التبرّعات في الطرُق العامة.

إلّا أنّ هذه الأموال كانت تذهب مناصفةً بين حامل الصندوق والمعنيّين في الجمعية، من دون تخصيص أيّ مبلغ لنشاط إنسانيّ خيري. وبعدما خفَّ تجاوب الناس مع فكرة جمع التبرّعات لصالح ذوي الاحتياجات الخاصة، توسَّل أفراد الجمعية مشروعاً وهمياً آخر، مفادُه بيعُ عطورات لأصحاب السيارات، على أساس أنّ مَن يبيعها طلّاب في الجامعة يجمعون الأموال لتخصيصها في حملات لتنظيف الشاطئ. وقد فُضح أمر الجمعية، بعد إخبار قدمه متطوع إنفصل عنها.

«كِرمال تِبسطي مار شربل»

ما حدثَ مع جورجيت في الديشونية لا يقلّ غرابةً عمّا سرَدناه من أحداث. فبينما كانت منهمكة في إعداد الطعام لعائلتها، قرَع أحدُهم «الانترفون»، وإذ بسيّدة «تتبَكبَك» قائلةً: «جارتك عطيتني 20 ألف، أدّيش بتحبّي تساهمي معنا كرمال مار شربل يكون مبسوط».

للوهلة الأولى استغربَت جورجيت المسألة وحاولت الاستفسار، إلّا أنّ تلك السيّدة، سرعان ما قاطعَتها، «شو بيفيض من خَيرك منيح، ما تتعزّبي تنزلي، بعَتي المصاري مع الصانعة». بين تأنيب الضمير، وسماعها باسم القديس شربل، سرعان ما لانَ قلب جورجيت، فوجَدت أن لا خيار أمامها إلّا أن تحسمَ من مصروف منزلها وتنزل حيث تنتظر السيّدة لتساعدها، خصوصاً أن لا خادمة لديها، وراتب زوجها «عَ قد الحال».

ما إنْ اقتربَت جورجيت من عتبة البوّابة حتى رأت أنّ السيّدة عينها تُمسك بورقة طبيب تجمَع على أساسها المساعدات في محيط منطقة حرش تابت بحجّة أنّ وحيدها سيخضع لعملية جراحية مكلِفة.

أيّ كان يجمع التبرّعات؟

«لا تلجَأ الكنيسة إلى هذه الأساليب الملتوية والرخيصة في جمع التبرّعات، لا ترسِل أحداً ليقرَع الأبواب أو يبيعَ الروزنامات». بنبرةٍ حاسمة يتحدّث الأب شربل بيروتي رئيس دير مار مارون عنّايا لـ«الجمهورية»، موضحاً: «عندما تكون الكنيسة في حاجة إلى المال تتعاون مع أبناء رعيتها، عبر تنظيم أنشطة ريعية، أو على سبيل المثال يَذكر الكاهن في العظة قضية محدّدة، وعلى أساسها تُجمَع الصواني والتبرّعات، مثلما دعَمنا مسيحيّي العراق».

ويُحذّر بيروتي من الذين يتاجرون باسم القدّيس شربل ويدَّعون أنّهم مرسلون من الكنيسة، قائلاً: «يَمسّ القديس شربل قلوبَ وضمائر جميع اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم، لذا معظمُ منتحلي صفة جَمع المساعدات يتاجرون باسمه، بصوَرِه، وبالروزنامات… فهو القدّيس الأكثر شهرةً وتأثيراً في العالم، لذا غالباً ما يدفع المواطنون ثمنَ مساعدات تصبّ لمآرب شخصية ولمنتحلي صفة».

لا يُنكر بيروتي تلقّيَه سَيلاً من شكاوى المؤمنين، فيقول: «نحن على يقين أنّ هناك من يستغلّ اسمَ القديس شربل، حتى إنّ البعض منهم قد لا يتردَّد في الوقوف على أطراف الدير لكسبِ المال، قائلين: «نحنا عم نشحَد لمار شربل»… للأسف أنّنا نفتقر لآليّة تمنع هؤلاء، وربّما على الدولة محاربة تلك الظواهر، سواءٌ بالنسبة إلى جَمع المال أو بَيع الروزنامات أو طبع صوَر القدّيسين، لأنّ معظم تلك الأرباح تذهب لمكاسب خاصة لا تطاوِل الأكثر عوَزاً، لا بل يتبرّع بها محتاجون يُضَحّون بما لديهم من منطلق إنساني».

في هذا الإطار، يؤكّد بيروتي أنّ الكنيسة تساعد كلّ مَن يقرع بابَها، حتى «إنّنا غالباً ما نحوّل الطرَف المساعد إلى الجهة المحتاجة، فنكون مجرّد صِلة وَصل، إضافةً إلى وجود مؤسسات وأطراف رسمية خيّرة تقوم بهذا الدور، منها كاريتاس».

الشيخ خليفة

من جهته، يُحذّر المدير العام للأوقاف الإسلامية الشيخ هشام خليفة من الأساليب الملتوية التي يشهدها المجتمع في جَمع التبرّعات، قائلاً: «يلجأ البعض إلى التنويم المغناطيسي، أو إلى إيحاءات، أو الكذِب أو انتحال صفة، أو تزوير عِلم وخَبر لجمعية خيرية… فيَجد صاحب المال أنّه خسرَ ما يملك من غير إرادته، لذا غالباً ما نُنبّه في المساجد من تلك الظواهر المسيئة، خصوصاً أنّ الناس يمرّون بأوضاع اقتصادية حرجة».

ويؤكّد خليفة لـ«الجمهورية»، رفض الإسلام لأي استغلال لمكان عام لجَمع التبرّعات، قائلاً: «كلّ مَن يريد جمع التبرّعات لا بدّ أن يستحصلَ على إذنٍ خاص، لكي لا يستغلّ طِيبةَ الناس، فما أُخِذ بسيف الحَياء، هو حَرامٌ، ولعَملِ الخير قنواتُه، إذ هناك صناديق معيّنة، وجمعيات معروفة بمصداقيتها يمكن اللجوء إليها.

ومن خلال الدوائر الوقفية المنتشرة في المحافظات نسعى جاهدين إلى التصدّي لأيّ ضربِ احتيال أو جَمع تبرّعات مشبوهة».

يتّفق بيروتي وخليفة، على «أنّ الله هو مَن يحاسب الاستغلاليين أوّلاً وأخيراً»، إلّا أنّ توعيَةَ المؤمنين وحدَها «غير كافية»، لذا يناشدان «الدولة عبرَ أجهزتِها الأمنية ملاحقةَ هؤلاء وحماية المواطنين من دفعِ ثمَن مغَبّة ضروب الاحتيال».