لا يبدو الحكم في لبنان قادراً على مواجهة الأزمة المالية والإقتصادية الخانقة بالرغم تحذيرات البنك الدولي ومجموعة سيدر والعديد من مؤسسات التصنيف المالية الدولية. الموقف المشترك للقوى التي تتصدّر واجهة السلطة هو الإلتفاف علىالقيود الدولية دون تعريض مكتسباتهاالمباشرة أو غير المباشرة لأي انتقاص.
لقد قارب أركان السلطة الأزمة بمجموعة طروحات هي أقرب الى القرارات المرتجلة بنوعيّها الشعبوي والفوقي وأحياناً الى تبرئة الذات،منها الى الكلام المسؤول. وعوض الإنكباب أحزاباً وكتلاً سياسية على البحث عن مخارج امتلأ الفضاء السياسي بمجموعة عناوين أُطلقت على الهواءوغابت عنها الأرقام والرؤى، والبرنامج الزمني، في مناسبات لا ندري جدواها ولا أين تقع في المسار العام للحكم.
قد يكون أكثر هذه التصريحات صفاقةً واستفزازاً هو ما أدلى به الوزير جبران باسيل، الوزير الناطق بكل الملفات من النفط الى الكهرباء واللاجئين والإنتخابات وعودة المهجرين والمصالحة في الجبل وسواها،ليقدّم نفسه مجدداً فارساً يتعملق لحلّ قضية الموازنة،مكرراً النموذج الفاشل عينه والسقطات عينها والعشوائية عينها التي قدّمها في البواخر وسلعاتا والمناقصات واللاجئين وفي المواقف الإستفزازية في دير القمر ورشميا، وكأنّ الأزمة المالية ستنتهي لمجرد إطلاق رأي سطحي من هنا أو من هناك.
«علينا أن نذهب إلى الإنجاز الأكبر في الموازنة حيث القرارات الصعبة … ومن يمكن أن يتحمل هذه القرارات، ….. هناك من يجب أن ينبّه الناس اليوم الى أنّ التخفيض المؤقت اذا لم يحصل فلن يبقى معاش لأحد وأنا أقول للناس ألا يجوز النظر فقط الى جيوبهم فهذا الأمر يجب أن يكون جزءاً ضئيلاً مما يجب تخفيضه في الدولة واذا كان يجب البدء بالوزراء والنواب فليكن». هذا غيض من فيض ما قاله معالي الوزير، موقف عبثي من المقومات الحياتية لمئات الآلاف من الموظفين وموقف سوقي يتعامل مع المؤسسات وكأنها سُخّرت لتحويل إرهاصاته إلى قرارات يخضع لها اللبنانيون.
هل يدري الوزير باسيل، أو ربما على الأرجح لا يدري إنسجاماً مع عشوائيته الدائمة أنّ رواتب المتقاعدين هي نتاج محسومات تقاعدية إقتُطعت من رواتبهم منذ دخولهم القطاع العام وأنّ هذه المحسومات لم توضع في صناديق تقاعديّة ولم تتمّ إدارتها بطريقة صحيحة، وإنما شكّلت جزءاً من المال العام يتصرف به من ليس له الحق بذلك؟ وهل يُدرك أنّ سلسلة الرتب والرواتب التي تسببت بجزءٍ من التضخم كان فريقه السياسي من أكثر المتحمسين لإقرارها، وأنّ لجنة المال والموازنة في المجلس النيابي التي يرأسها أحد أعضاء تكتله هي التي وافقت عليها بالرغم من كلّ الشوائب التي اعترتها، وأهمها عدم التحقق من عدد موظفي القطاع العام، وتفاوت الرواتب بين موظفي الفئة الواحدة وتفاوت قيمة الدرجات المستحقة ضمن كلّ فئة، والتعويضات التي أُعطيت دون وجه حق لبعض القطاعات كرمى لعيون تحالفات إنتخابية وتحقيق أكثريات وهمية أثبتت عجزها في الحكم؟
هل يريد معالي الوزير أن يحمّل موظفي القطاع العام مسؤولية الفشل في إدارة المال العام وفي الجباية، وفي المحميات في المرفأ والمطار وعلى الحدود البرية وفي الكهرباء والمياه والسدود، ومهازل التوظيف العشوائي التي استفاد منها حزبه كسائر الأحزاب وطبعاً بنسبة أكبر؟ وهل يُدرك الوزير أنّ تشريع قوانين الأملاك البحرية ومخالفات البناء وفرض ضرائب على الشركات العقارية وترشيد إستئجار المباني الحكومية بإمكانها توفير مداخيل للخزينة تفوق بأضعاف ما يمكن أن تجنيه الدولة من تخفيض الرواتب؟ وهل يُدرك عقله الإقتصادي أنّ هذه الرواتب تشكّل الدائرة الإقتصادية التي يعيش عليها صغار التجار والصناعيين،وأنّ تخفيض هذه الرواتب سيؤثر على القدرة الشرائية وعلى حجم هذه الدائرة وبالتالي على حجم الضريبة على القيمة المضافة الناتجة عن هذه الحركة؟
يظهر أنّ معالي الوزير لا يجيد لعبة الأرقام، وهو يتعامل مع الرواتب كما تعامل مع ملف الإستملاك في سلعاتا ومع بواخر الكهرباء ومع فواتير رحلاته السندبادية،وربما يعتقد معالي الوزير أنّ موظفي القطاع العام لن يأبهوا لتخفيض رواتبهم، وهم أذكياء وقد إقتدوا به، كما ذكر في أحد تصريحاته،وتمكّنتوا من جني الثروات وامتلاك الطائرات الخاصة واليخوت.
إنّ المقارنة التي تُساق بإمكان وصول لبنان الى الحالة اليونانية في حال عدم تطبيق موازنة تقشفيّة، لا يمكن تحميل تبعتها لموظفي القطاع العام. فالمقارنة مع اليونان غير جائزة، أولاً لأنّ ليس في اليونان حدود سائبة ولا محميات أمنية ولا محميات إقتصادية، وليس فيها مواطنون لا يدفعون الفواتير وليس فيها سياسيون أثرياء لا تُعرف مصادر ثروتهم. كذلك إن المقارنة مع اليونان تستوجب مقارنة عدد الفاسدين فيها بعدد الفاسدين في لبنان، وفي هذا المجال يجب تسجيل التفوّق لمستحقه!!!
يُدرك الوزير باسيل أنّ إطلاقه لحملة تخفيض الرواتب والتصرف بكلّ ثقة وكأن ذلك قدرٌ لا مفرّ منه سيؤدي الى إضطراب إجتماعي كبير ومستمر،ويدرك كذلك أنّ الإصرار على تطبيقه سيؤدي الى تعطيل دوري لحياة اللبنانيين ولسائر المرافق العامة وسيُدخل البلاد في حالة من الفوضى،وربما سيستوجب اتّخاذ إجراءات إستثنائية، وقد يؤدي إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد وتكليف القوى العسكرية بحفظ الأمن وربما تعطيل الحياة السياسية.
فهل هذا ما يرمي إليه معالي الوزير؟ وهل هناك من تسوّل له نفسه بعسكرة الأزمة، تمهيداً لعسكرة الحياة السياسية!!!!