Site icon IMLebanon

تاجر الفضائح

المفكّر البريطاني الساخر برنارد شو وصَفَ الصحافي بأنه تاجر الفضائح… ولأن الفضائح عندنا منتشرة، والمواسم مزدهرة في شتى أسواق السمسرة والفساد، فقد أصبح الصحافي في لبنان تاجراً غنيّاً جداً وقد حطّم كل أرقام الأرباح الخيالية، وقبَرَ كل أشباح الفقر.

أمَّا أنا، فكلّما تصدَّيتُ لهذه الفضائح عبر مقال لاذِعِ النقد، يتصدّى لي بعضُ الأصدقاء والحُرَصاء بالقول: لماذا لا تخفّف من هذه الهجومية النقدية فقد تستجلب لك أعداء وخصومة وخلافات؟

ومن باب الردّ أقول لهؤلاء الأصدقاء، وللأصدقاء القرّاء: إنَّ أعداء الإنسانية والوطنية والشرف والمناقبية الأخلاقية من الحكام والمسؤولين، هم أعدائي حكماً، وإني لا أُخفي هذه العداوة ولا أخافها، ولا تضيرني بقدر ما أعتزّ بها.

وأقول بلغة وقائع التاريخ، إنَّ مَنْ يحمل القلم لا يحمل معه المباخر الكاذبة، وليست مهمة الأقلام إلا مواجهة الأضاليل ومناصرة الحق العام، وتصويب مسيرة الحكام، والنطق باسم الذين تُكَمُّ عندهم الأفواه، وتتلعثم في أفواههم الألسنة، وباسم الأقلام المرتجفة التي تخرس الحقيقة في أفواهها.

ثمَّ إنني، في كلِّ ما كتبتُ ونطقتُ وعلَّمتُ، لم يزِلَّ عندي قلمٌ أو لسان الى وحشي الكلام، والى النافرِ منه والناشز بالشتائم والأدناس، ونحن أكثر ما يشوبنا في هذا الزمان هو هذه السوقِّية من الألفاظ والتعابير التي تتلطّخ بها ألسنة أهل السياسة بما تمجُّهُ الأخلاق وتستبشعه الأذواق وتتعرض له الأعناق، وقديماً قيل: إنّ مقتلَ الرجل بين فكَّيْه.

يوم كان القلم مسجوناً في زنزانة السلطان، كان الجور والظلم والعهر والقهر والكفر، وكانت الشعوب رقيقاً محللاً للبيع وقطعاناً محلّلة للذبح.

ويوم انتفض القلم على يد المفكرين والأدباء والشعراء الفرنسيين تحطّمت العروش الغاشمة والرؤوس الظالمة، وبامتشاق سيف القلم تقوّضت أعمدة سجن «الباستيل» وانتصرت الثورة.

ويوم بلغَ تعسُّف السلطنة العثمانية، حدَّ اغتيال حياة الشعوب واغتيال حقها في الحياة، وحدَّ التجرُّؤ على «تتريك» اللغة العربية بما في ذلك القرآن، إنتفض القلم اللبناني على يد الأدباء والشعراء والصحافيين اللبنانيين الذين هبوا في عصر النهضة كالعواصف في العواصم العربية والأميركية، فانتصر القلم وانتصرت اللغة وانتصر القرآن وسقطت السلطنة.

ولبنان اليوم الرازح تحت وطأة عصر الإنحطاط، ومغبّة سلاطين الجهل، لن تقوم له قيامة إلا بانتفاضة القلم الذي يكاد يكون محجَّباً بقرار شرعي.

تعالوا نستعرضهم كلّهم… أهل الحكم والمسؤولية والسلطة والسياسة، سمعناهم كلّهم وعرفناهم كلَّهم، وسجلنا أسماءهم واحداً واحداً، واستحصلنا على سيَرِهِمْ الذاتية، وسألنا عن ماضيهم وتاريخهم، فلم نجد واحداً منهم ينطبق عليه لقب مفكر أو أديب أو مثقف أو شاعر أو عالم أو كاتب، فإنْ هو تكلم شوَّه اللغة، وإنْ فكَّر أوقع الناس في الأُميَّة والجهل.

يقول أفلاطون «إنَّ عقول الناس مدوَّنةٌ بأطراف أقلامهم…» فأين هي عقول هؤلاء الناس عندنا وأين هي أقلامهم؟

عندما تصبح السلطة الحاكمة لعبة الشيطان فلا بدَّ إذ ذاك من شيطان القلم الذي يقول فيه القيصرُ الروسي: «جميل أنت أيها القلم ولكنك أقبَحُ من الشيطان في مملكتي».

أيها الأصدقاء والنصحاء.

فليقَبّحْ القيصر الروسي القلم الشيطان وليكسر سيفه في الهواء، واعذروني إذا ما استمررت في التمرد على القيصر بواسطة هذا الشيطان الذي في مملكته.