تثير احداث وسط بيروت ليل السبت 22 آب، والتأريخ هنا موصوف لانها ستدخل في خانة احداث مفصلية في سياق الانحدار اللبناني، انفصاما بل تمزقا في وجدان اللبنانيين يضاف الى تمزقاتهم ومعاناتهم المريرة. هي في الأصل تظاهرة بدأت تستقطب النطق الحقيقي والتعبير الحر الجارف عن انفجار الضيق بأزمة النفايات وألاعيب السياسة والسياسيين المترفين وإمعانهم في المعلوم وغير المعلوم في صراعات مخجلة وفاضحة وفاسدة تركت لبنان فريسة صورة ولا أبشع ومصير ولا أسوأ لم يشهد مثله في عصور الميليشيات والحرب الاهلية. ومن ثم تتحول بسحر ساحر الى محاولة انقلابية موصوفة على آخر المربعات الدستورية حاملة موجات الشكوك في من ركب ووظف واستغل وتسلل في الصفوف الشبابية لحركة مدنية طالعة للإجهاز على الحكومة.
يستدعي الامر كثيراً من تبريد الوقائع من اجل تصحيح الرؤية. تلك الحماوة والحمى الفائقة في التسابق على الأخطاء الفادحة في التعامل السياسي والامني مع الإمرة الميدانية للتظاهرات والاحداث والمواجهات التي جرت إنما تشكل الوجه الآخر الفوضوي الذي فجره عامل المباغتة في مواجهة حشد غير محسوب تداخل فيه الحق والباطل سواء بسواء. لسنا هنا نجرم اطلاقا اي نزعة حتى الى اسقاط الحكومة واستقالة مجلس النواب و”الثورة”. هذا حق مشروع ايضا وبديهي متى صار الناس يتامى على قارعة الازمات والانهيارات، وهو حق ولو لم يكن من وظيفة الحشد العفوي التدقيق في مآله الخطر لكونه سينقل البلاد الى متاهة الفراغ الشامل المهددة بحرب أهلية اجتماعية ومن ثم طوائفية – مذهبية لا محال. الامر يغدو مكان تدقيق مختلف متى تتحول تظاهرة ” طلعت ريحتكم ” الى بروفة مستعادة لتاريخ ٦ ايار ١٩٩٢ حين أسقطت “تظاهرة الجوع” حكومة الرئيس عمر كرامي. ولعل الفارق الاساسي بين التظاهرتين هو ان أحداث السبت الماضي أبرزت بوضوح قرار منع اسقاط الحكومة مهما بلغت شدة التعامل الأمني مع الوجه التوظيفي للتظاهرة ولو كلف القرار القوى الامنية ضريبة كبيرة وثقيلة جدا لإفراطها في استعمال القوة والشدة. هنا تماما يبرز الخطأ الكبير الذي يتحمله بالدرجة الاولى “مجهولون معلومون” في تبديل هوية تظاهرة كانت تصرخ بالكامل باسم اللبنانيين الى محاولة خطيرة لاسقاط حكومة أبى رئيسها الا ان يصطف مع “الناس والاوادم” في مواجهة الاستهدافات الاشد خطرا للبنان المشارف على الانهيارات السريعة. حساب السياسيين الانتهازيين والمقصرين والعاجزين لن يكون سهلاً ومتاحاً ولو ان المشهد الفوضوي يفضح الانهيار السياسي الشامل بأقصى تداعياته. ولكن ان يزج مرة جديدة بالناس في مواجهة الامنيين والعسكريين بفعل الانهيار السياسي فهذا من علامات الهرولة السريعة جدا الى الفوضى الشاملة والحروب الاجتماعية الاخطر من الحروب المسلحة. فحذار اليوم التالي.