المارسيّيز ليس فقط نشيدا وطنيا فرنسيا إنه أيضا نشيدٌ عالمي. إنه جزء من تراث ثقافي عالمي لا بل إحدى محطات بدء العصور الحديثة أو الأدق لكأنه نشيد الانطلاق لبدء هذه العصور الحديثة، عندما تسمعه، كلماتٍ وموسيقى، تعرف أنه نشيد تاريخ لم يتوقف منذ أكثر من قرنين.
المارسيّيز نشيد حربي في الأساس قبل أن يصبح نشيدا وطنيا بل نشيد الوطن الفرنسي. هو النشيد الحربي الذي لم يحبّه، يا للمفارقة، كبير المحاربين الفرنسيين في التاريخ: نابوليون. ومع أنه يتضمّن كلمات جلفة وحتى بعض العنصرية، هو نشيدٌ ثوريٌّ يختزل تاريخ فرنسا ويمس كهرباء ثورات أخرى بل الثورات الكبرى في العالم. فالمارسيّيز نشيد يميني بقدر ما هو يساري. عنيف بقدر ما هو تضحاوي (من تضحية).
لقد أنشد الفرنسيون في الأيام الأخيرة ولا زالوا ينشدون بكثافة المارسيّيز. لكن كلما تقدّم الوقت، يعرفون أن ما باتوا يحتاجون إليه الآن هو القتال لا الغناء حتى لو كان ذلك، عبر المارسيّيز، تعبيرا عن وطنيتهم وعن تضامن غير الفرنسيين معهم. خصوصاً أن الأخيرين في دول وعواصم ومدن عديدة باتوا نوعين: إما طالهم إرهاب ليس أقل همجية من مجازر باريس وإما ينتظرون بقلق امتداد الإرهاب الأعمى إلى شوارعهم.
أعجبتني بين عبارات استخدمها الرئيس فرانسوا هولاند في خطابه أمام أعضاء مجلسي النواب والشيوخ عبارة: “علينا الاستمرار في… التأثير في العالم”.
ومع أن الموضوع اليوم، كما كان دائماً عالميٌّ وليس فرنسيا، بما فيه إسلاميٌّ لأنه يتعلّق بتحدي أقلية صغيرة للمليارات من المسلمين الراغبين بالسلام والتقدم، فإن أمام الدولة الفرنسية قراراتٍ صعبة تتخذها لا بد أن الرئيس هولاند يطوف بعض مراكز القرار في العالم ليبحثها مع زعمائها.
لا يشك الكثيرون برغبة معظم المسؤولين الفرنسيّين بالقتال البري لاستئصال “داعش” ما بعد مجازر باريس. لكن حسابات المصالح الضخمة هل تسمح لفرنسا أن تذهب إلى هذا الحد؟ لا شك بالمقابل أن شيئاً كبيرا على المستوى العسكري سيحصل ضد “داعش”. ما قد يكون على المحك الآن بالنسبة لفرنسا هو وجودها أمام مفترق طرق سيكشف، بعيدا عن النشيد الحماسي، هل هي دولة قوية بالقدر الكافي لتفرض على العالم، أو على بعض العالم الغربي والشرقي والشرقْ أوسطي، مساراً عسكريا سارع الرئيس الأميركي باراك أوباما في ختام اجتماعات مجموعة العشرين يوم الاثنين المنصرم في أنطاليا.. سارع إلى استبعاده وهو إرسال جيوش إلى المنطقة للقتال المباشر. كان ذلك استباقاً غير لائق للخيارات بل للمشاعر الفرنسية و لم تكن دماء الضحايا قد جفّت بعد. بينما تألّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المجروح في شرم الشيخ في اصطياد اللحظة بإعلانه كلاما غير مسبوق حيال تراخي عدد كبير من الدول في التعامل مع ظاهرة “داعش”.
لم تعارض فرنسا جاك شيراك الغزو الأميركي البريطاني لأفغانستان الذي حصل بعد أقل من شهر على مجازر 11 أيلول 2001 بل شاركت فيه بفعالية لطرد “طالبان” و”أسامة بن لادن”. كان الموقف شبيها قبل الغزو بما حصل قبل أيام في باريس، بل لم يصدر صوت واحد يومها بين الدول الكبرى وفي الشرق الأوسط يعارض ذلك. كانت أميركا جريحة وغاضبة مثلما هي فرنسا اليوم ومعها أوروبا بل العالم ومن ضمنه لبنان الجريح. لماذا اقترف أوباما هذا الفعل غير اللائق بمعنى الاستباق أي التوقيت وليس بمعنى الموقف نفسه؟ لا نعرف الآن ولكن يجب انتظار نتائج زيارة هولاند إلى واشنطن وهل ستغيّر في الموقف الأميركي أم ستحصل على الموافقة على العملية العسكرية لكن دون مشاركة الجيش الأميركي فيها باستثناء التنسيق الفني والجوّي القائم أصلاً أم؟
عارض جاك شيراك الغزو الأميركي البريطاني للعراق بعد عام ونصف العام وأربك شرعية القرار الأميركي ولاسيما في مجلس الأمن حيث يُتقن الفرنسيّون اللعبة. إنما كانت الظروف مختلفة من حيث عدم اكتمال مبررات الغزو (السلاح الكيميائي الذي ثبت فعلا لاحقا أنه غير موجود في العراق) والأرجح في الخلفيات عدم التوافق بين الدولتين على توزيع النفوذ والمصالح والأدوار بعد الغزو.
لكن اليوم الأمر مختلف والموقف الأوبامي في أنطاليا يأتي في وضع “11 أيلولي” يحتاج إلى تضامن كامل مع فرنساالجريحة وليس في وضع “صدام حسيني” ملتبس رغم فداحة السمعة الديكتاتورية للرئيس العراقي يومها.
هل سيجري تجاوز هذا الخلاف بين فرنسا وأميركا خصوصا على ما يبدو أن هذا الرئيس الأميركي ملتزم بموقف عميق استراتيجي وشخصي بعدم التورط الأميركي بحروب برّية عبر جنود أميركيين؟ إنما باستطاعة الرئيس الفرنسي أن يستند في الدعم المعنوي لقرار عسكري بري على الكثير من الأصوات الأميركية بين الخبراء التي تدعو إلى اقتلاع عسكري مباشر لـ”داعش” رغم وجود أصوات أميركية معارضة لذلك (راجع النقاش المتعدد الأصوات الذي افتتحته “النيويورك تايمز” أمس وكان النقاش قد بدأ قبل ذلك في الصحافة الأميركية الكبيرة أو المسماة “الوطنية”).
كيف ستنظّم فرنسا ردها “الأفغاني” في سوريا والعراق؟ لديها الدعم الروسي الذي لا يحتمل الالتباس. ولكنَّ الانتقال من قيادة أميركية لقرار عسكري كبير إلى قيادة روسية أمرٌ ليس بهذه السهولة بالنسبة لدولة مثل وبحجم فرنسا كانت حتى الأمس أي حتى توقيع الاتفاق النووي مع إيران منخرطة في صراع حاد في أوكرانيا وسوريا.
الذين ينشدون المارسيّيز في باريس اليوم فئتان بين النخبة الفرنسية: أقلية تدعو إلى استراتيجيّة سياسية للقضاء على الخطر الإرهابي وفئة أكثرية تدعو إلى استئصال عسكري مباشر. وليس صعبا معرفة أن أكثرية شعبية فرنسية لن تكون بعيدة عن تغطية قرار “مارسييّزي” وغير نابوليوني كهذا!