كثير من الأصدقاء العرب اتصلوا مستفسرين عن «مشهد معراب» مساء الاثنين الفائت٬ حين أعلن رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع ترشيح خصمه اللدود الجنرال ميشال عون لرئاسة لبنان. فبين انقلابات المشهد السياسي اللبناني الكثيرة٬ يعد مشهد معراب الأكثر استعصاًء على الفهم٬ لاعتبارات كثيرة٬ أبرزها نجاح جعجع في تسويق صورة الثبات والمبدئية السياسية عن أدائه السياسي٬ مما جعل قبوله بعون مفارقة كبيرة لشريحة وازنة من المتابعين العرب. فهو القائل: «يمكن للمرء أن ينتخب شخًصا غير نفسه٬ لكن أيعقل أن يصوت لمشروع غير مشروعه؟»٬ وإذ به يقر اليوم بالتقاطع الانتخابي مع حزب الله على عون٬ مؤكًدا أن «موقف حزب الله واضح٬ وهو يسير في السراء والضراء خلف الجنرال». أي أن النص السياسي الذي قرأه جعجع يوم ترشيح عون لا يعدو كونه مخرًجا نصًيا لحفظ ماء الوجه في لحظة التقاطع الانتخابي مع حزب الله وتوجهه لانتخاب شخص بل «مشروع غير مشروعه»!
من العدل والإنصاف لجعجع القول إنه لا يجوز الطعن في مصالحة تقفل جرًحا من أعمق جراحات الحرب الأهلية اللبنانية. كما ليس منطقًيا الطعن فيه لإقدامه على ما أقدم عليه منتقدوه مراًرا وتكراًرا٬ من التحالفات الانتخابية البرلمانية٬ لا سيما عام ٬2005 وصولا للمحاصصة الدائمة مع حزب الله في الحكومة. ويمكن لأنصار الحكيم أن يقيموا هذه الحجة بصوت مرتفع لو أننا٬ في خطوة جعجع٬ أمام تحالف انتخابي مصلحي عابر.
في ترشيح جعجع لعون حسابات انتخابية كثيرة٬ بلا شك٬ تتصدرها حاجته لمرشح يوقف به قوة الدفع السياسية التي قد توصل خصمه الآخر سليمان فرنجية للرئاسة. لكننا في الحقيقة أمام ما هو أعمق بكثير.
في معراب٬ المقر العام للدكتور جعجع٬ أعلن الرجل انتقاله من هوية الرابع عشر من آذار٬ بما هي هوية وطنية جامعة تلتقي عندها الهويات الفرعية٬ المذهبية والحزبية٬ إلى الهوية المسيحية٬ بل إلى القضية المسيحية٬ إذا جاز التعبير٬ واضًعا على الطاولة مشروع إعادة النظر في الهوية الوطنية اللبنانية وكل منطق الشراكة مع المسلمين داخل النظام السياسي اللبناني.
فالترشيح٬ أوصل عون أم لم يوصله٬ حرك عملًيا كل فوالق الهوية الوطنية اللبنانية٬ الحقيقي منها والمفتعل٬ الواقعي منها والمتخيل٬ وهز أسسها٬ ومنح جعجع زعامة «القضية المسيحية» في لبنان٬ لسنوات طويلة ستأتي.
سيتضح أننا بإزاء اصطفاف مسيحي ذي حيثية تمثيلية لا يمكن تجاوزها قرر ترشيح عون٬ يقابله اصطفاف إسلامي (بري٬ جنبلاط٬ المستقبل) يتجه٬ حتى الآن٬ لدعم فرنجية٬ مدعوًما من مسيحيين أقل تمثيلا من الثنائي الماروني جعجع عون!
وهنا لب القضية المسيحية التي أعاد جعجع تكوينها في معراب!
تعداد الأصوات البرلمانية٬ بصرف النظر عن المذهب٬ يفيد بأن الاصطفاف الإسلامي (ناقص حزب الله) قادر على توصيل «مرشحه» وإسقاط مرشح الاصطفاف المسيحي أي الجنرال عون!
فالكتلة البرلمانية التي تستطيع الأغلبية المسلمة تجييرها أكبر من تلك التي تستطيع تجييرها الأغلبية المسيحية٬ وهو ما لم يكن ممكًنا حصوله لو أن قانون الانتخابات البرلمانية كان قانونا فيدراليا مذهبيا٬ كالذي طرحه جعجع يوًما٬ بما يعطي الصوت المسيحي للمسيحي والصوت المسلم للمسلم.
فبسبب طبيعة العقد الاجتماعي في لبنان٬ ومنطق الشراكة بين المسلمين والمسيحيين٬ والطبيعة الميثاقية للنظام السياسي٬ تتيح القوانين الانتخابية للكتلة المسلمة الناخبة توصيل نواب مسيحيين يصطفون معها في خياراتها السياسية كما هو حاصل اليوم٬ ويكون ذلك مقرًرا في طبيعة التصويت واتجاهاته في كل القضايا المطروحة.
في العمق هنا تكمن الأزمة. وإعادة النظر بمنطق الشراكة وفلسفتها هي السؤال المطروح منذ اليوم على الإجماع السياسي اللبناني٬ أًيا تكن اتجاهات المعركة الرئاسية.
وهو ما حاول لبنانيون كثر مداراته وأحيانا القفز فوقه منذ عام 2005 وحتى اليوم. فكانوا يغازلون هوية وطنية جامعة وتغازلهم٬ في حين بقيت شقوق الهويات المذهبية القلقة تتسع. زادها انصراف حزب الله منذ ذاك التاريخ إلى شحن طائفته بأعلى مستويات الاستقطاب المذهبي٬ ثم صعود الإسلام المتشدد السني بأبشع صوره مع «داعش» ومن على مقربة من حدود لبنان٬ في سوريا٬ ثم انهيار الحدود الوطنية٬ في سوريا والعراق وليبيا٬ وخلخلتها عند الأطراف الصحراوية لمصر٬ وانتهاء الربيع العربي إلى أعنف انفجار للهويات الفرعية في كل هوية وطنية على حدة!
ترشيح جعجع لعون٬ بسياقه وتفاصيله ونتائجه٬ هو معبر واضح لإعادة تأسيس القضية المسيحية اللبنانية٬ خارج خطاب السنوات العشر الماضية٬ وهي قضية مرشحة لأن تسقط من خطاب المسلمين الكثير من ثوابتهم حيال الشراكة القائمة والمهددة.
لم يسبق٬ منذ انتخاب بشير الجميل٬ أن عبرت معركة رئاسية في لبنان عن كونها معركة في صلب العقد الاجتماعي بين اللبنانيين٬ وفي صلب المعركة على هوية كيانهم السياسي٬ والمؤسساتي٬ وفي صلب هويتهم الوطنية!
فالصورة الآن ليست صورة زعيمي الرابع عشر من آذار وصراعهما لتوصيل أحد صقري حزب الله للرئاسة٬ على ما في هذه الصورة من أدلة على انهيار المشروع السياسي للحركة الاستقلالية٬ بل هي صورة انهيار الهوية الوطنية اللبنانية التي كنا نعرفها.