في كل مرة تتحقّق خطوة، يخرج من يقول إنها لو تمّت قبلاً لكنّا وفّرنا هذا وحققنا ذاك. من يتلفّظ بهذا الكلام، تنقصه المعرفة السياسيّة أو يبغي التقليل من أهمية الخطوة ومفاعيلها السياسية.
عندما تحققت المصالحة بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» وجد من يقول: «لو لم يختلف الطرفان أصلاً لما كان حصل ذاك ولكنّا وفّرنا ذلك، وكأنّ الأمور تقاس بالبساطة تلك، بعيداً من الفعل ورد الفعل والحركة السياسية في مسارها العام، بدءاً من تقاطع عوامل عدة خارجية وداخلية، مروراً بالظرف السياسي وأولويات كل فريق وحساباته، وصولاً إلى مسارات حتميّة تضع الأطراف المعنية، في بعض الأحيان، أمام خيارات محدودة.
صحيح انه كان يفترض، على سبيل المثال، تجنّب الحرب العالمية الأولى والثانية، ومنع الصدام المسيحي-الدرزي في القرن التاسع عشر، والحؤول دون وقوع الحرب اللبنانية وما تخللها وإلى ما هنالك من أحداث مؤسفة ومُدانة في التاريخ. ولكن، في نهاية المطاف، ولأسباب واعتبارات وخلفيات عدّة، وسياق أحداث منطقي، قد حصل ما حصل، فيما الأهم هو السعي لتجاوز ما حصل وتجنّب تكراره مستقبلاً.
مناسبة هذا الكلام، المصالحة بين «القوات اللبنانية» وتيّار «المردة»، وعودة النغمة إيّاها، والتي لن نتوقف عندها، بل سننظر مباشرة إلى أهمية هذه الخطوة التي تقفل الجرح المسيحي الثقيل الذي بدأ من الشمال، وإهدن تحديداً، وتعيد توحيد كل الجسم المسيحي تحت ثوابت قيميّة تتمثّل بالمصالحة واستبعاد العنف في مقاربة الخلافات السياسية وفتح أبواب الحوار للتلاقي حيث أمكن وتنظيم الخلاف عند الضرورة.
وإذا سأل البعض لماذا الآن بالذات؟ نقول إنّ الأمر يتعلق بمسار الأحداث وتطوراتها. فسياق الأحداث أدى إلى تقبّل الشارع، لا بل حماسته إلى خطوة كان يستصعبها سابقاً. فتجمُّع عوامل عدة قاد في هذه اللحظة بالذات إلى إقفال صفحة وفتح أخرى جديدة. فما كان متعذّراً بالأمس أصبح ممكناً اليوم.
وينطلق الطرفان من ضرورة طَي صفحة الماضي بمعزل عن تمايزهما الكبير في قضايا سياسية أساسية، تبدأ من الموقف من «حزب الله» وسلاحه ولا تنتهي بالنظرة إلى النظام السوري ودور لبنان في خضم أزمات المنطقة وحروبها.
السنوات الأخيرة، وتحديداً مع التسوية السياسية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهوريّة، أثبتت أنه يمكن التمييز بين الخلاف الاستراتيجي، وملفات المساحات المشتركة داخليّاً. كما يمكن القول إن حقبة الانقسام العمودي التي تلت خروج الجيش السوري من لبنان كانت استمراراً لحقبة الوصاية السورية وشهدت محاولات من طرفي النزاع لحسم الصراع لمصلحتهما. ولكن بعد اقتناعهما بتعذر الحسم، قررا المساكنة تحت سقف الخلاف الاستراتيجي.
وفي حال نجاح هذه السياسة بعيداً من تأثيرات اختلاف العناوين الكبرى على العناوين الصغرى، يمكن ان يحافظ لبنان على استقراره بانتظار أن تطوّر الممارسة قناعات البعض بأولوية المصلحة اللبنانية التي يجب أن تعلو ولا يُعلى عليها.
باتت الناس مشدودة إلى همومها الحياتية المحكومة باتفاق وخلاف السياسيّين على شؤون الدولة الداخلية، أكثر منها حول الشؤون الخارجية، وبالتالي الخلاف في السنتين المنصرمتين من العهد حول الملفات الاستراتيجية كان الاستثناء، فيما القاعدة كانت الخلاف على إدارة الدولة.
من هذا المنطلق يمكن للمصالحة بين «القوات اللبنانية» و»المردة» ان تتطور باتجاه مزيد من التلاقي السياسي، من دون تفاهمات مكتوبة ولا تعهدات شفوية، حيث انّ العلاقة بينهما ستأخذ مداها الطبيعي من خلال التفاعل مع الأحداث، ومن البديهي ان تختلف هذه العلاقة بين مرحلتي ما قبل المصالحة وما بعدها، وبالتالي ستتطور تبعاً لحركة الأحداث.
وما تجدر ملاحظته انّ رئيس «المردة» سليمان فرنجية، ومنذ تحوّله إلى خيار رئاسي تبنّته قوى سياسية خارجية وداخلية، تخلّى عن تمحوره الحاد من دون ان يتخلى عن ثوابته وقناعاته وخطّه السياسي، وقد تكمن قوته في أنّ علاقته مع القوى الأخرى لا تحكمها أوراق تفاهم إنما مواثيق شرف.
وإذا كانت خطوة المصالحة غير موجّهة بالتأكيد ضد الوزير جبران باسيل، وهي خطوة حتمية وضرورية ولها ظروفها التاريخية وقضية قائمة بذاتها، إلا انه لا يمكن فصل تردداتها وتأثيراتها على الواقعين اللبناني والمسيحي. وأهميّة هذه الخطوة انها تحققت بعد الانتخابات النيابية وقبل 4 سنوات على الانتخابات الرئاسية، ما يعني استبعاد ربطها بأي استحقاق سياسي، ولكنها ستفرض إيقاعها على الحياة السياسية وستتحول إلى احتمال قائم بذاته لم يكن مُتاحاً في مرحلة سابقة.
وإذا كان التوازن بين رئيس «التيار الوطني الحر» سابقا العماد ميشال عون ورئيس «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع يكمن في مشروعيّتهما التاريخية داخل البيئة المسيحية وتوازن شعبيتهما، فإن التوازن بين جعجع وفرنجية، وإن لم يطرحاه اليوم، يكمن بحيثية الأوّل الشعبيّة التي تتوسّع رويدا رويدا إضافة إلى علاقاته الداخلية والعربية والغربية، كما يكمن بحيثية الثاني السياسية، ونجاحه بإبرام تحالفات قوية داخل محوره حوّلته إلى رقم صعب في المعادلة الوطنية.
لا شك في انّ المصالحة بين «القوات» و»المردة»، كما المصالحة بين «القوات» و»التيار الوطني الحر»، أعادت للحياة السياسية رونقها، وهذا يرتبط حكما بتراجع الانقسام العمودي الذي أفضى إلى عودة الحياة الوطنية والتقاطعات في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من مستوى، فلم تعد الحياة السياسية مملّة، والمفاجآت متوقعة في كل لحظة، والتحالفات على القطعة متاحة في كل الأوقات.
وهذه الصفحة الجديدة التي تفتح بين «القوات» و»المردة»، وبالرغم من أنها تعني مباشرة منطقة معيّنة، إلا انّ انعكاسها سيكون على كل المشهد اللبناني وستؤدي إلى خلط أوراق وتبدل حسابات وبروز معطيات جديدة، كما سيكون انعكاسها مباشراً على البيئة المسيحية التي ستتلقّف هذه الخطوة بارتياح كبير وستفرض إيقاعها على المشهد المسيحي وديناميته الوطنية التي ستزداد مناعة وقوة. فالمصالحات هي مطلب مسيحي شعبي، ومن يخرج منها يتحمل المسؤولية أمام الناس، والدليل ان «القوات» و»التيار الحر»، وعلى رغم الخلاف الحاد بينهما أخيراً، يشددان في كل مناسبة على التمسّك بالمصالحة وعلى أن ليس في نيّة اي منهما العودة إلى ما قبلها.
والعلاقة بين «القوات» و»المردة» لن تكون على حساب علاقات أخرى، لأن لكل علاقة حيثيّتها ووظيفتها، ولكن الأكيد انه بعد المصالحة الأولى والثانية سيبدأ المسيحيون باستعادة حيثيّتهم الوطنية، وانّ ما فرّقته الحروب وأدت إلى إضعاف دورهم، أعادت المصالحات الاعتبار إليه. وفي هذا المجال لا يمكن إنكار التوازن الاستراتيجي المثلث الذي أحدثه انتخاب عون رئيساً: توازن بين الرئاسات، توازن داخل البرلمان، وتوازن في الحكومة. وما لا يمكن أيضا إنكاره ان المسيحيين كانوا هدفاً لوضع اليد على لبنان، وأدى إضعافهم إلى إضعاف لبنان، فيما استعادتهم دورهم وقوتهم ووحدتهم، ولو تحت سقف تبايناتهم، ستؤدي حكماً إلى إعادة الاعتبار للبنان ودوره.