يخطىء من يظن أن الحركة السياسية والإعلامية التضامنية التي تتولد بعد كل “اعتداء” على الصحافة الحرة هي مجرد حركة فولكلورية الهدف منها الإدلاء بالتصاريح أمام شاشات التلفزة أو توزيع الابتسامات أمام عدسات و”فلاشات” الكاميرات.
المسألة أبعد وأعمق من ذلك بكثير، إنها تعكس قناعة بأن ثمة ميزة باقية للبنان (مع تقهقر وتلاشي الميزات الأخرى تدريجياً بفعل تدجين الدستور والمؤسسات والحياة الوطنية عموماً)، هي ميزة حرية الإعلام وحرية الرأي والتعبير التي تتعرض بين الحين والآخر لـ”اعتداءات” مغلفة في إطار قضائي إلا أنها تشي بالنوايا الحقيقية لمن يقف خلفها ويحركها ويسعى لاستباحة ما تبقى من النظام الديمقراطي اللبناني، على هشاشته!
مع اختلال موازين القوى السياسية، والضرب المنهجي لإتفاق الطائف، والمفاخرة بتعديله بـ”الممارسة”، وإنشاء الأعراف السياسية الجديدة تارة تحت عنوان إستعادة الحقوق المصادرة، وطوراً تحت شعار “الميثاقية”، ومع تحويل حق المشاركة في السلطة إلى حق التعطيل واستيلاد ممارسات لا تمت إلى الدستور بصلة، وثم صبغ كل هذا الأداء بخطابٍ طائفي ومذهبي تعززه في بعض المحطات عنصرية مقيتة؛ مع الأخذ بالاعتبار لكل ما ورد، لا يمكن اعتبار التعرض للاعلام الحر، كما حصل مع “نداء الوطن” مجرد خطوة منعزلة عن السياق العام والمسار الذي تنتهجه بعض الأطراف السياسية.
ليس لبنان، ولا يمكن أن يكون، مماثلاً لمحيطه العربي الذي هو أشبه بـ”سجن كبير”، يصادر الحريات العامة ويقمع الشعوب ويدجّن المجتمعات ويطيح بحرية الرأي وينشر الصحف – الأبواق التي تهلل للحاكم ليل نهار!
لبنان مختلف بطبيعته وبتكونه بتنوعه وتعدديته، بمفهومه للعروبة الحرة المنفتحة (المناقضة للممارسات “العروبية” لبعض الأنظمة)، بديمقراطيته التي، رغم هشاشتها ولوثتها الطائفية، تؤمّن مساحة وهامشاً للحريات.
إحالة “نداء الوطن”، إذا كان من داعٍ لإحالة “مانشيت” سياسي، فيمكن أن تتم إلى محكمة المطبوعات لا أن يتخذ المسار الجزائي لمجرد أن كتبت الصحيفة مقالاً سياسياً مغايراً لرؤية “أهل الكهف”!