تكثر الأحاديث عن حلول رئاسية وسياسية من دون طرح حيثيّات تلك الحلول الآتية وكيفية تطبيقها زمنياً وعملياً. وقد تبدو الأماني بحلول ما، هي السائدة أكثر من الوقائع الدامغة. والمسألة الرئاسية لا يمكن فصلها بشكل مباشر عمّا يُرسم لسوريا من مخططات وتقسيمات عملية وقانونية وسياسية.
وإذا غُصنا أكثر، نُدرك وبشكل جلّي أنّ الأزمة اللبنانية لم تعد مرتبطة بأزمات المحيط القريب والأبعد فحسب، بل أضحت جزءاً لا يتجزّأ منها حتى بكلّ المفاصل والحيثيات. والرئاسة عندنا ليست منفصلة عن بقية المسائل السياسية العالقة وليست بمنأى عن الخلاف الإيراني – السعودي المستمر وإن بدرجات متفاوتة، وطبعاً لا تقع ضمن أولويات الاتفاق الأميركي – الروسي المرتقب حول سوريا.
إذاً، أصبحنا بعد حوار الأمس نؤكّد المؤكّد مرة بعد مرة، ونرى أنّ المشكلة الداخلية بمظهرها ليست كذلك إطلاقاً، بل إنّ ارتباطها بأزمات وملفات أبعد من حدود لبنان بات أمراً واضحاً ولا يحتاج تفسيراً أو تأويلاً.
والرئيس المنتظر لن يأتي ضمن تسوية رئاسية محدّدة ومحدودة، بل سيكون وليد تفاهم أوسع يتعلّق بالحكومة وتركيبتها وطريقة ممارسة السلطة بين المؤسسات الدستورية، أو بطريقة أخرى سترسم معالم وشروط إعادة رسم حدود اللعبة الداخلية بين القوى الفاعلة بحكم تبدّل بعض موازين القوى، ما يجعل أفكار تغيير النظام الدستوري مؤجّلة، ولكن هذا لا يعني أنّ نظام «الطائف» كما «تسوية الدوحة» ليسا في وضعيّة معقدّة.
إذاً، لا يمكن بعد كلِّ ما حدث وما نشهده من تعطّل في عمل المؤسسات الدستورية وعدم القدرة الفعلية على حلّ الأزمات المستفحلة، أن تعود الآلية التي كانت معتمدة لتطبَّق من جديد وبالشكل الذي كانت عليه قبل الأزمة الرئاسية والتطوّرات المتعدّدة الجوانب والنقاط.
فقد أضحينا اليوم في ظلّ منطق يخرج عمّا كان سائداً من دينامية حكم. لذلك وضمن هذا السياق، لن يأتي اتفاق حول الرئيس معزولاً عن حلّ متكامل أو تسوية شبه شاملة تشمل طريقة الحكم وتوزيع مراكز القوى داخل المؤسسات الدستورية، وربما تصل الى قانون الانتخاب وقوانين أخرى، وملفات عديدة بينها النفط وما سواه من مسائل حيوية لا بل استراتيجية.
إنّ الانفراج، وإن يكن مطلوباً، فهو ليس قريباً أو مُرتقباً. فالملفات المتراكمة والتي تشكل بنوداً في رسم الاتفاق الأميركي – الروسي لا تزال تأخذ الأولوية، متخطّية كلّ الأجندات الأخرى ومستبقية الأزمة الدموية في سوريا بين كرٍّ وفر حتى تحين ساعة الحسم، أي يوم تتحقّق معالم وشروط التسوية الروسية – الأميركية على أرض الواقع السوري ويحصل تبديل حقيقي في قواعد اللعبة المعتمَدة منذ سنوات، والتي أدّت الى ما أدّت اليه من تهجيرٍ قسري لملايين من البشر كان للبنان نصيبٌ منهم بأعداد وافرة لا تستطيع أيّ دولة أخرى لها كيانها ونظامها المعتمَد، تحمّلَ الأوزار السياسية والأمنية والاقتصادية الناشئة عن ذلك.
وهذا «الترانسفير» ليس بريئاً أو ناتجاً فقط عن واقع الحال الأمني الخطر، بل هو أمر عمليات كبير له أطر تكتية واستراتيجية عميقة وهادفة. وقضيّة النزوح واللجوء الشرعي منه وغير الشرعي باتت أزمة بذاتها تقلق المجتمع الدولي، وهو أي «الترانسفير» في رسم الحلّ الحاسم من جهة القوى الفاعلة والمؤثرة على الصعيدَين الدولي والإقليمي، وإلّا تغيّر وجه لبنان أو بعض وجهه.
ولا ينفع عندئذٍ إتخاذ موقف أو قرار، لأنّ المسار العام يكون قد رُسم والنتائج ستصبح أوزاراً مؤلمة علينا تحمّلها كما تحمّلنا نكبة فلسطين والهجرة التي تلت النكسة عام ١٩٦٧، حتى تحوّل جزءٌ من أرضنا الى دولة بديلة… وكان ما كان.
بكلّ موضوعية، لم يعد الحلّ على المستوى الرئاسي، وإن يكن مطلوباً، يمكِّن من حلّ المعضلات العاصفة بكيان لبنان ومستقبل أبنائه. إننا نحتاج الى أكثر من مؤتمر حوار وطني لأنّ ما يمكن اللبنانيين حلّه بات جزءاً قليلاً ممّا للإرادات الدولية والإقليمية من قدرات. كما أنَّ «الإرادة» تلك وضَعت استقرار لبنان ضمن الخطوط الحمر، فكان لنا هدوءٌ ملحوظ في ظلّ يقظة الجيش اللبناني الناجحة في مكافحة مظاهر الإرهاب المتنقل.
نعم، لقد أصبحنا في نقطة جيو-سياسية أبعد من «الطائف» و»الدوحة» معاً، وما كان مقبولاً في بعض هذا وذلك، أضحى اليوم عرضة للتبدّل والتطوّر نحو تسوية أكثر شمولية ربما وبأصول جديدة من دون المَسّ بالنصوص المرعية الإجراء.
كلّ هذا لا يُغني السلطات الحاكمة عندنا، ولو بالشروط الدنيا، عن ترقب ومواكبة التطوّرات والتسويات وتحريك الأشقاء والأصدقاء، لكي لا نصبح على هامشها وهنا الخطأ الفادح.