كما كان نداءُ المطارنة الموارنة في أيلول 2000 محدِّداً لخريطة الطريق نحو ثورة سياسية أطاحت بالنظام الأمني اللبناني السوري، كذلك يُتوقّع أن يكون نداءُ تشرين 2016 بوصلةً ونقطة انطلاق لإستعادة حقوق المسيحيين وترتيب البيت اللبناني وأوّل الغيث لانتخاب رئيسٍ للجمهورية.
تعدّدت الصرخات التي أطلقها نداء المطارنة الموارنة بعدما اجتمعوا أمس برئاسة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي دقّ ناقوس الخطر بأنّ الأوضاع باتت لا تُحتمل والصبر بدأ ينفذ وكان لا بدّ من اتّباع لهجة حازمة وصارمة لتصحيح المسار. هكذا كانت البطريركيّة المارونيّة منذ بداية تاريخها لا تساوم ولا تتراجع عن قول الحق ووضع النقاط على الحروف مهما كان الثمن.
الصرخة الأولى وجّهها المطارنة إلى الثنائي الشيعي لتذكّره بضرورة التقيّد بالدستور في مسألة انتخاب رئيس الجمهورية «كي لا يكون رئيساً صوَرياً»، مقيَّداً بسلسلة شروط مسبَقة تتنافى مع ما تنصّ عليه المادة 49 من الدستور. وبذلك يكون المطارنة نسفوا بعد عظة البطريرك الراعي، موضوع السلّة من أساسه، إذ لن يجرُؤَ أيّ مرشّح على القبول بشروط السلّة بعد هذا النداء عالي النبرة.
فربطُ الإنتخابات الرئاسيّة بقانون انتخاب ورئاسة حكومة وأعضاء حكومة والثلث الضامن كما في التعيينات لا سيما منها العسكرية والأمنية والسياسية والإقتصادية والمالية للمرحلة المقبلة، هو ما بدأ يقلق الكنيسة المارونية التي سعت إلى فكّ هذا الارتباط وإن كانت تؤيّد أية تسوية أو مبادرة توصل إلى إنهاء الفراغ في رئاسة الجمهورية الذي بدأ يقارب الثلاثة أعوام، وهو بات يشكّل خطراً وجودياً على هذا الموقع الماروني أولاً والمسيحي ثانياً.
وجاءت الصرخة الثانية في النداء مؤكّدة أنّ الميثاقيّة هي روح الدستور بل شريعة اللبنانيين الأساسيّة، وبالتالي وضعت خطاً أحمر أمام التلاعب بمفهوم الميثاق الذي لم يكن يوماً «مجرّدَ تسويات أو تفاهمات عابرة، يقبل بها اليوم ويراجع في شأنها غداً، أو يتمّ التراجع عنها في أوقات تضارب المصالح والخيارات»، وهذا ما ينسجم مع تساؤلات الراعي السابقة «ما هي قاعدة الميثاقية؟ وأين احتُرمت بعد مرور أكثر من سنتين على الفراغ؟» وبالتالي صرخة الميثاقيّة موجّهة أيضاً إلى مَن يقاطعون جلسات الانتخابات الرئاسية كـ«حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وتيار «المردة».
الثالثة كانت بمثابة رسالة تشجيع صريحة لمبادرة رئيس تيار «المستقبل» النائب سعد الحريري للخروج من حالة الفراغ في سدة الرئاسة الأولى مثمّنة حركته ذات النوايا الحسنة.
الصرخة الرابعة توجّه بها المطارنة إلى الشريك المسلم بمكوّنَيه السنّي والشيعي، مطالبين بقانون انتخابات نيابية يُطلق مساراً لتمثيل حقيقي مشجّع منسجم مع الميثاق والدستور. وبذلك يكون نداء المطارنة قطع الطريق أمام أيّ تمديد آخر للمجلس النيابي أو اعتماد قانون الستين مجدّداً. مع العلم أنّ بكركي عانت من الطبقة السياسية التي خذلتها مراراً وتكراراً نتيجة المزايدات المارونيّة والخلافات السنّية الشيعيّة، والأسوأ كان التمديد للمجلس النيابي من دون أيّ مراعاة لكلمة بكركي.
الصرخة الخامسة جدّدت الثقة بالجيش اللبناني في حربه ضدّ الإرهاب، وكان من البديهي أن ينبّه النداء من إغراق المؤسسات الأمنية بالمهاترات والتجاذبات السياسيّة التي تشلّ المؤسسات. فالجيش يُعتبر من بين المحرّمات الأربع عند المسيحيين إلى جانب رئاسة الجمهورية والصرح البطريركي والقضاء. لذلك ترفض بكركي كلّ الصراعات حول قيادة الجيش الموقع المسيحي الثاني بعد رئاسة الجمهورية في الدولة اللبنانية وخصوصاً «أنّ المهام جسيمة والتضحيات كبيرة».
الصرخة السادسة اقتصادية، إذ اعتادت البطريركيّة المارونيّة منذ وجودها في وادي قنوبين أن ترعى شؤون رعيّتها في الأراضي اللبنانية كافة وتمدّهم بالمساعدة في رفع شأنهم الاقتصادي ولو بالمتيسّر، لكن اليوم باتت هذه الأمور من مسؤولية الدولة اللبنانية التي تترتّب عليها واجباتٌ شتى لمواطنيها ولديهم حقوق عليها ويجب أن ترعاهم لأنّ البطريركيّة لا تستطيع مهما بلغت من قوة الحلول مكان أجهزة الدولة.
بكركي ترى بأمّ العين ما يحصل للمسيحيين خصوصاً واللبنانيين عموماً، لذلك رفعت صوتها أمام هذا «التراجع المخيف» للإقتصاد، محمِّلة القوى السياسيّة المشارِكة في السلطة التنفيذيّة بمختلف فئاتها مسؤوليّة الإنهيار الداهم وبعد تحذيرات المؤسسات المالية الدولية.
الصرخة السابعة كانت في وجه المؤتمر التأسيسي من خلال تمسّك المطارنة بتنفيذ اتفاق الطائف الذي لا بديلاً عنه إذ «يقيم عيشنا المشترَك على شروط الدولة الجامعة وليس على شروط فئة من اللبنانيين». وغمز النداء من قناة «حزب الله» المنخرط في الحرب السوريّة من خلال المطالبة بتكريس الحياد «بعيداً من سياسة المحاور» في منطقة يجتاحها عنفٌ مجنون يهدّد السلام في العالم بأسره.
نداء المطارنة الموارنة لا بدّ أن يتحوّل صرخات مدوية في وجه المعطّلين والمتخاذلين والمنغمسين في حروب المحاور الإقليميّة، فهل من ضمائر حيّة ستتأثّر بهذا النداء «الثائر»؟