مرّة أخرى تثبت نظريّةٌ سياسيّةٌ سادت في لبنان بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، صحّتها: التسوية الرئاسية التي أنتجت العهدَ الرئاسي الحالي ليست سوى توافق مؤقت بين قوى سياسية ثمّة فوارق كبيرة وتناقضات في ما بينها الى حدٍّ يمكن القول إنه لا يمكن التوفيق بينها على كل شيء.
صحيح أنّ «مهرجان» الوحدة الوطنية الذي ساد خلال موقعة استعادة الرئيس سعد الحريري من الرياض قبل أقل من شهرين، وما أحدثته من «صدمة إيجابية» في الداخل اللبناني، قد دفعت إلى التشكيك بتلك النظرية، حتى لدى مطلقيها، إلّا أنّ شهراً واحداً، بعد هذا المهرجان أعاد الاعتبارَ للصورة الحقيقية للحياة السياسية بكل تلاوينها الخلافية والاهْتزازية في شتى المفاصل وحول كل أو معظم العناوين والملفات الداخلية.
تسمية «الجنرال الرابع»، التي أطلقها البعض على العماد عون حينما انتُخب رئيساً للجمهورية، لم تأتِ من فراغ، وهي تتجاوز مجرّدَ كونه رابعَ قائد للجيش اللبناني، يتولّى منصب الرئاسة في لبنان، باتّجاه دلالاتٍ أخرى، من شأنها تفسير الكثير، سواءٌ في طريقة الحكم، أو في العلاقة مع القيادات السياسية، التي تفترض الديمقراطية التوافقية – التي حلّت أمراً واقعاً على لبنان منذ الطائف – أن تجعل طابعَها الشراكة لا الأحادية.
المشكلة، كما تُشخّصها قراءةٌ نقدية لمَن كانوا يُعتبَرون من أقرب الأصدقاء للعهد، تكمن في جانب أساسي يُنذر بجعل سنوات الولاية الرئاسية، مليئةً بالأزمات السياسية مع شركاء الحكم.
ويتمثّل في أداءٍ ومقارباتٍ أشعرت الشريحة الواسعة من القوى السياسية، وحتى المصنّفة في خانة الصديقة والحليفة للرئاسة الأولى، بأنّ رئيس الجمهورية لم يستطع في واقع الأمر التخلّي عن البزّة العسكرية من الناحية النفسية، وهو ما يجعله يخوض شؤونَ السياسة بخلفية عسكرية، قائمة على منطق «الأمر لي»، و«الآمر المأمور» و»نفّذ ثمّ اعْترض» هذا إذا كان لك أصلاً حقّ الاعتراض، فهو «القائد الأعلى»، وأما الشركاء الآخرون فليسوا سوى ضبّاط أدنى رتبة!
هنا، كما يقول أصحاب القراءة الصديقة النقدية، مكمن العلّة في العلاقة السياسية بين رئيس الجمهورية وباقي القيادات السياسية في البلاد، بمَن فيهم رئيس المجلس النيابي وكذلك – الى حدٍّ ما – رئيس مجلس الوزراء، علماً أنّ لكلٍّ من الرؤساء صلاحياته الدستورية والقانونية بحسب الطائف الذي رسم حدودَ الطوائف وصلاحياتِها الدستورية.
هذا السلوك، والكلام لأصحاب القراءة النقدية، تجاوزه الجنرالات الثلاثة، الذين سبقوا الجنرال الرابع ميشال عون بالوصول الى رئاسة الجمهورية، ابتداءً من الجنرال فؤاد شهاب، الذي أدرك طبيعة التوازنات السياسية في جمهورية الاستقلال، فانصرف عنها إلى الإصلاح الإدراي، مروراً بالجنرال إميل لحود، حتى في ذروة مرحلة القوة الممنوحة إليه، وصولاً إلى الجنرال ميشال سليمان في ذروة تجلّياته «اللاوسطية».
والأدهى، بحسب القراءة النقدية، أنّ هذا السلوك ألبسه «التيار الوطني الحر» لباساً سياسياً، تجسّد في شعار «بيّ الكل»، الذي يجعل رئيس الجمهورية «الأب الحنون» الذي يُغرق أبناءَه بالحنان وبالعاطفة الأبويّة، على غرار احتضانه سعد الحريري في أزمته المرّة، ولكنه في الوقت ذاته «الأب الصارم» أو «رب البيت» الذي تبقى الكلمة الفصل في شؤون العائلة ممنوحةً له ومن اختصاصه حصراً.
فِي اعتقاد أصحاب هذه القراءة أنّ منطقَ الشراكة السياسية الذي يتبنّاه العهد والمغلّف بالحديث عن «الحقوق» في مجالات متعددة، قد يكون المحرّك لكل الأزمات التي شهدها العهد منذ نهاية العام المنصرم، بدءاً بأزمة تشكيل الحكومة، مروراً بأزمة قانون الانتخابات وأزمة التعيينات، وأزمة سلسلة الرتب والرواتب، وأزمة بواخر الكهرباء وصولاً إلى أزمة مرسوم «الأقدمية».
وبعيداً من التفاصيل المرتبطة بحيثيات المرسوم الذي أشعل الاشتباك بين الرئاستين الأولى والثانية، وعلى ما يرد في القراءة الصديقة النقدية، فإنّ المشكلة الجوهرية المرتبطة بالأزمة الحالية الحادّة، التي ترخي بظلالها على نهايات العام 2017، تتجاوز الإطارَ الدستوري وتفاصيلَه، باتّجاه انتهاك مبدأي الشراكة والميثاقية، اللذين يُفترَض أن يكونا المحرّكَ الأساسي للحياة السياسية في لبنان، واللذين لطالما كان العماد عون من أشدّ المطالبين بهما.
تبدو الأزمة الحالية بواقعها الاشتباكي الراهن عاجزةً عن تقديم إجاباتٍ مقنعة على سؤالين جوهريَّين:
– الأوّل، طالما أنّ الحياة السياسية في لبنان قائمة على الشراكة والميثاقية والتوافق، فما الحكمة وراء استحضار مرسوم ملتبس ومتّهم بالإخلال بالتوافق وبالمسّ بمبدأَي الشراكة والميثاقية؟
– الثاني، طالما أنّ قضية ضباط «دورة عون» إنسانية ومحقّة، فلماذا لم تتمّ معالجتُها في إطارٍ تفاهمي، شأنها شأن كافة القرارات الصغيرة والكبيرة في البلاد؟
المنطق العوني يقول بالأحقية والإنصاف لفئة مغبونة من الضباط. في مقابل منطق رافض لتجاوز الشراكة والميثاقية. لكن ما ينبغي التمعّن فيه هو المنطق الاتّهامي الذي يُساق من قبل خصوم الرئيس. ويتحدث عن محاولة دؤوبة في المرسوم وغيره، لتكريس نزعة تفرّدية، وكانت لافتة هنا إشارة البطريرك الماروني بشارة الراعي في عظة الميلاد من أنّ لبنان لا يحتمل التفرّدَ بالسلطة.
لعلّ ما سبق يفسّر تمسّك رئيس مجلس النواب نبيه بري بعدم السماح بتمريرة من شأنها أن تكرّسَ سابقةً على طريق التفرّد. ولعلّ الأمر، بالنسبة إلى رئيس المجلس، يتّخذ يوماً بعد يوم، ومحطةً بعد محطة، وأزمةً بعد أزمة، منحىً أكثرَ تشدّداً في مقاربة هذا المنحى «التفرّدي» و«التجاوزي» للشركاء خصوصاً أنّ السنة الماضية شهدت تقديمَ الكثير من التنازلات السياسية، التي كان الهدف منها الحفاظ على الدولة من خطر الانهيار، بدءاً بالتسوية الرئاسية نفسها، مروراً بالتسوية المرتبطة بقانون الانتخابات، وصولاً إلى كل القرارات السياسية والإدارية، التي حصل فيها رئيس الجمهورية على ما يريد.
ربما هذا، وكما تورد القراءة النقدية، ما جعله يقارب المرونة السياسية التي أبدتها القوى السياسية الشريكة في الحكم تجاهه، ليس بمنطق الانفتاح والإيجابية، بل بمنطق أنّ الطرف الآخر ضعيف، وهو أمرٌ بات من الصعب لدى تلك القوى غضّ الطرف عنه، خصوصاً بعدما راحت نزعاتُ الرئاسة الأولى تتجاوز الخطوطَ الحمراء التي رسمها اتّفاقُ الطائف، على نحوٍ يُنذر بالانقضاض على التوازنات السياسية، التي تعدّ في الواقع، الحاكمَ الفعلي للبنان.
في خلاصىة القراءة النقدية، خشية كبرى ممّا هو آتٍ، وربما يكون اعظم ممّا سبق، خصوصاً وأنّ الحلبات الرئاسية صارت مفتوحة على شتى الاحتمالات، إلّا إذا اقتحمت تلك الحلبات إرادة جبارة وفرضت نزعَ فتيل المرسوم ومنعت الاشتعال الكبير، ولكن هل هذه الإرادة الجبّارة موجودة؟ فلننتظر ونرَ.