تتماهى الحياة السياسية في لبنان بكلّ مفاصلها يوماً بعد يوم مع إيقاعات الحرب في سوريا. لم يقوَ الفرقاء اللبنانيون، ولو مرة واحدة منذ خمس سنوات، على الخروج من دائرة الجذب التي فرضتها القوى المتدّخلة في الميدان السوري، بل نقلوا دائماً معادلة القوى من الساحة السورية إلى الداخل اللبناني وحاولوا إسقاط المكتسبات الميدانية على المعادلة السياسية الداخلية. وقد ساهم تقاطع المصالح وفي مقدّمتها المصالح الأميركية والروسية والإسرائيلية والإيرانية في إرساء حالة من التردد الدولي والغموض في الرؤية وفي إفساح المجال أمام المزيد من الإنغماس اللبناني في الأزمة السورية.
طاولة الحوار في لبنان شكّلت أحد نتاجات هذا الإيقاع لا سيما لدى طرح مسألة السلة المتكاملة. لم ينجح المروّجون لها في تمييزها عن المؤتمر التأسيسي الذي لم يعنِ يوماً سوى انقلاباً على اتّفاق الطائف، برغم كلّ الإيحاءات والتصريحات بالإلتزام بهذا الإتفاق نصاً وروحاً. الإتفاق طبعاً لم يُطبّق منذ التصويت عليه من قبل المجلس النيابي بتاريخ 5/11/1989 في القليعات. فصل السلطات وتوازنها لم يتحقق يوماً وجلسات انتخاب الرئيس منذ ذلك التاريخ تحوّلت جلسات لتعيين الرئيس كما أنّ تشكيل الحكومات جاء إئتلافياً وبثقة وهمية أعاقت عمل السلطة التنفيذية وألغت لعبة المعارضة والموالاة. تماهت الطوائف بالكتل السياسية وأصبح من المستحيل إيجاد أكثريات وأقليات مرنة داخل منظومة الحكم، ناهيك طبعاً بعدم السير بآليات إلغاء الطائفية السياسية وسواها.
أحد إسقاطات المعادلة الميدانية في سوريا هو تعطيل الحكومة على خلفية تفسير الميثاقية. يتبارى السياسيون كلّ يوم في إعطاء أبعاد جديدة لهذا المصطلح الذي لم يعنِ يوماً منذ ورد في خطاب حكومة الرئيس رياض الصلح في العام 1943 تقاسماً للمكاسب بين الطوائف، بلّ عبّر دائماً عن تخلي الطوائف عن كلّ أنواع الحماية الإقليمية والدولية وعدم الإعتراف بأي مركز ممتاز لأيّ دولة عربية أو أجنبية. الميثاقية بهذا المعنى يقوّضها اليوم كلّ من يستحضر ويربط الإستحقاقات الدستورية بالملفات الإقليمية. الميثاقية مهددة بسبب انغماسنا في الحرب السورية والميثاقية مهددة بسبب استحضار كلّ الإقليم لتعطيل آلية انتخاب الرئيس، وهي مهددة أيضاً بسبب الإصرار على اعتبار لبنان وطناً أسّس ليحقق طموحات مجموعة من الطوائف وليس على أساس قناعة مجموعة من الطوائف بتأسيس وطن. نجح المتطاولون على الدستور في تعطيل الحياة السياسية ولكنهم لم ينجحوا حتى الآن في استيلاد جمهورية أخرى تشكّل قطعاً تاريخياً مع الثوابت التي قام عليها لبنان لصالح ثوابت جديدة يجري تضخيمها على وقع متغيّرات إقليمية مفترضة.
ميدان آخر يجري على أساسه استنهاض ماضٍ يجب أن يُطوى لصالح بناء وطن متّحد هو الصراع العقاري الذي نشهد فصوله اليوم انطلاقاً من العاقورة مروراً بلاسا وصولاً إلى بيروت، تحت مسميّات استعادة أملاك الدولة والمشاعات المذهبية. يبدو المشهد وكأنّه استحضار لصراع المماليك والشيعة في جبل لبنان في بدايات القرن الرابع عشر أو هو هجوم مضاد على استقدام قبائل التركمان إلى كسروان وهجرة الموارنة من شمال جبل لبنان إلى كسروان، أو هو استعادة لمؤتمر ممثّلي القوى الأوروبية الذي عُقد في بيروت بهدف إعادة تنظيم أوضاع جبل لبنان وكان من نتيجته صدور «النظام الأساسي» في العام 1861 وجعل جبل لبنان متصرفية أي سنجقاً مميّزاً في البلاد العثمانية، يتبع طبعاً لقيادة دمشق، ويتمتع بضمانة دوليّة في ظلّ حاكم عثماني مسيحي يعيّن بموافقة الدول الأوروبية الضامنة، أو هو انتقام مما ورد في كتاب « أخبار الأعيان في جبل لبنان» لطنوس الشدياق لجهة المادة التاريخية المتعلّقة بجبل لبنان ومنها الـ«طابو الدفتري» أي السجل العثماني العقاري.
إنّ النظرة الحديثة إلى لبنان يجب أن تتطلع إلى ما هو أبعد من تفاصيل تاريخ لبنان السياسي وتتفهّم المجتمع اللبناني كتجربة فريدة لشعب واحد في عالم عربي مُقبل على حضارة عالمية حديثة، وهي تجربة يجب أن تنجح وأن تتجاوز كلّ الإختلافات الطائفية بين اللبنانيين إذا كان للبنان أن يبقى. لا بدّ ان يتوقف ماضي لبنان عن أن يكون مسألة جدل عقيم بين مواقف سياسية متسلطة ومبنية على أحكام مسبقة وعن أن يكون تعبيراً عن حزازات عشائرية أو شبه عشائرية بات للزمن أن يطويها. ولا بد أن تتوقف المعادلة الداخلية عن أن تتذبذب على وقع اختلال ميزان القوى الإقليمية لصالح هذا الفريق أو ذاك. إنّ التاريخ ليس مجرد بحث عن معرفة بل هو فهم وإدراك وإعادة نظر لصالح ما هو خير للبنان ومستقبل لبنان أثمن بكثير مما ستحققه السلة المتكاملة وعقارات لاسا