ثمة حاجة ملحّة لفهم موضوعي لما جرى في مدينة طرابلس عشية عيد الفطر. في الظاهر، يبدو الهجوم الإرهابي، الذي استهدف الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، مشابهاً لهجمات إرهابية عديدة شهدها العالم خلال السنوات الماضية، لا سيما أنّ ثمة استراتيجية باتت واضحة من ِقبَل تنظيم «داعش» لنقل المعركة إلى خارج النطاق الجغرافي لما كان يعرف قبل فترة بـ»الدولة الإسلامية»، وذلك بعد سلسلة الهزائم التي مُني بها من العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان ومصر.
لا شك أنّ هجوم طرابلس يحمل بصمات «داعشية». على الأقل، هذا ما يمكن استشرافه من الانتماء الايديولوجي لمنفّذه عبد الرحمن مسبوط، والذي اتضح منذ اللحظات الأولى للهجوم، الذي راح ضحيته عسكريون شهداء.
برغم ذلك، يبدو أنّ ثمة مبالغة في تبسيط الأمر، على النحو الذي اختزل هذا العمل الارهابي بالقول، إنّ المنفذ يعاني من اختلال عقلي، وايضاً بكلام آخر، وصّف العمل الارهابي بـ»هجوم فردي» نفّذه «ذئب منفرد»!
هذا الكلام، اياً يكن مصدره، يمكن إدراجه في ثلاث خانات:
الاولى، اعتباره كلاماً عشوائياً، ينم عن إرباك، وجهل مريع بالوقائع المحيطة بهذا العمل.
الثانية، إعتباره كلاماً متسرّعاً، أو زلّة لسان غير مقصودة، خصوصاً أنّ السجل الإجرامي – الإرهابي والدوافع الايديولوجية للارهابي عبد الرحمن مبسوط لم تكن خافية على أحد.
الثالثة، إعتباره، كلاماً ينطوي على محاولة هروب الى الامام، بالحديث عن مرض عقلي يعانيه المنفّذ، او وصفه بـ»الذئب المنفرد»، وذلك لرفع مسؤولية المسؤول عن الأمن، وللتهرّب من المساءلة على تقصير من هنا أو هناك. وبالتالي إبعاد تهمة التقصير عنه.
بالحد الادنى، فإنّ صحة فرضية الإختلال العقلي من عدمها، يؤكدهما تحقيق جدي، او تقرير طبي، اكثر جدّية يثبت ذلك. ثم انّ مصطلح «الذئب المنفرد»، كما يقول الخبراء الأمنيون، هو في الواقع مصطلح إستخباري يدلّ الى قيام شخص او أشخاص، غير منظّمين، أي لا يخضعون الى تنظيم هرمي يتلقون منه التعليمات للقيام بعمليات ارهابية، وذلك بالتخطيط والتنفيذ ضمن إمكانياتهم الذاتية. ومن هنا فإنّ غالبية الأشخاص المنفذين لمثل هذه العمليات هم من الشخصيات السويّة الاعتيادية، التي لا تثير الشكوك في سلوكها وحركتها اليومية.
وبحسب الخبراء، فإنّ المحرّك الايديولوجي يبقى الأساس، خصوصاً أنّه غالباً ما يكون الإرهابي، على قناعة راسخة بأهمية عمله «الجهادي»، وهو نصرة التنظيم الأم الذي يتأثر بأفكاره – والأمر هنا يتصل بتنظيم «داعش» – فيتحرّك ضمن استراتيجية واضحة، غالباً ما يعممّها التنظيم الإرهابي عبر قنواته الخاصة وعبر الشبكة الالكترونية العنكبوتية ووسائل التواصل الحديثة.
من هنا، فإنّ نظرة واقعية لما حصل، تدفع إلى تتبع فرضية تقترب من اليقين، بأنّ عبد الرحمن مبسوط لا يمكن بأي شكل من الأشكال تصنيفه ضمن فئة «الذئاب المنفردة». فالرجل سبق أن كان عضواً في تنظيم محلي متشدّد – مجموعة أسامة منصور التي شاركت في المعارك ضد الجيش اللبناني في طرابلس سنة 2014 – في حين تشير معلومات أخرى إلى أنّه ذهب إلى سوريا للقتال إلى جانب تنظيم «داعش»، ثم عاد إلى عرسال، حيث تمّ توقيفه عام 2016، ليُطلق سراحه بعد أشهر، نتيجة لضغوط سياسية معيّنة، بحسب ما كشف مسؤولون في الدولة اللبنانية، ومن بينهم وزراء معنيون، تحفّظوا عن الكشف عن هوية الجهة التي مارست هذه الضغوط.
التفاصيل اللوجستية المرتبطة بالعملية، تُظهر في رأي الخبراء الأمنيين، أنّ ثمة جانباً آخر للشكل التنظيمي الذي تحرّك من خلاله عبد الرحمن مبسوط، والذي يجعل فرضية الانتماء إلى «خلية نائمة» أو «خلية قاعدية» أقرب إلى المنطق منه إلى فرضية «الذئب المنفرد».
فالإرهابي مبسوط، لم يكن في مغارة، ولم يسقط فجأة من السماء، بل كان مرئياً في محيطه وفي منطقته، كان حراً طليقاً، كان مرتاحاً يتحرّك كما يبدو بلا قيود، وبلا رقابة (؟!) وضمن خطة مُحكمة، حددت نقاطاً حساسة، لاستهدافها في وقت واحد، لحظة الاسترخاء الأمني الطبيعية عشية عيد الفطر، علاوة على أنّ كمية الذخائر التي استخدمها (رصاص، قنابل يدوية، قنابل دخانية) لا تشي ابداً بالعمل الفردي، الذي غالباً ما يلجأ فيه «الذئب المنفرد» إلى مواد متوافرة معينة يمكن توفيرها بشكل سهل من الأسواق لتصنيع متفجرات بدائية على سبيل المثال.
العمل الارهابي الذي حصل في طرابلس خطير جدا، الّا أنّ أخطر ما في الأمر، إن كان يشي بأنّ ثمة توجّهاً لدى التنظيمات الإرهابية الى تفعيل خلايا إرهابية، بعضها نائم ولم يتم كشفه، أو عبر «خلايا قاعدية يمكن أن تكون قد تشكّلت من تلاقي «ذئاب منفردة» في هذه المنطقة او تلك.
هذا الامر يضع الجميع، مواطنين، سياسيين وأجهزة امنية وعسكرية امام تحدٍ كبير. ولكن هل في الإمكان التصدّي له؟
يحدّد الخبراء الأمنيون خمسة شروط من شأنها تعزيز عامل التصدّي:
– الاول، تنفيس المناخ الحاضن لهذه الفئات، والتشدّد القاسي مع الجهات التي تحمل الفكر «الداعشي» او تروّج له. الّا انّ هذه العملية شديدة الخطورة والحساسية، إذ انّ مجتمعات كاملة ما زالت تحتضن هذه الفئات.
– الثاني، تشديد المراقبة الأمنية، على نحو ما هو متبّع في كل دول العالم. والتنسيق الفاعل بين الاجهزة الأمنية، وإعادة إجراء مسح جدّي للارض اللبنانية، بدءًا من طرابلس.
– الثالث، التشدّد الصارم حيال المخيمات الفلسطينية، التي يؤكّد الجميع من دون استثناء انّها تشكّل الملاذ الآمن لأصحاب الفكر الارهابي سواء من «داعش» او من اخواتها وكل التنظيمات الارهابية.
– الرابع، انّ هذا الخطر لا يمكن التصدّي له، إذا ما استمرت البازارات السياسية على الطريقة اللبنانية، والتي تتراوح بين ضغوط لإطلاق سراح موقوف، رغم اهوائه الارهابية، أو المطالبة بعفو عشوائي على متشدّدين محكوم عليهم بالسجن. هنا يتوجب الفرز في ما بين الموقوفين، ووضع المعايير الواضحة التي تحدّد مدى الخطورة الأمنية التي يشكّلها إطلاق سراح هذا الموقوف او ذاك.
– الخامس، انّ هذا الخطر يمكن التصدّي له، من خلال تحييد الأمن عن الخلافات السياسية والاعتبارات المذهبية.
في رأي الخبراء الأمنيين، انّ هذه الشروط، وغيرها من خطط وإجراءات وتدابير من قِبل الأجهزة الامنية اللبنانية، قد تشكّل عنصر التصدّي الفعّال لهذا الخطر. والّا، فإنّ ما حدث في طرابلس لن يكون سوى مقدمة لعنف ارهابي متنقل، سرعان ما سيبدّد خطابات التباهي بـ»الإنجازات» السابقة.