لقد قيل الكثير في زيارة الدكتور سمير جعجع إلى السعودية، لا سيما اللقاء مع الملك سلمان بن عبد العزيز، والذي يؤشّر إلى حجم الثقة السعودية برئيس «القوات» وعُمق العلاقة معه. ولكنّ السؤال المطروح هو عن كيفية تثمير هذه العلاقة لبنانياً ومسيحياً؟
الدور الذي تؤديه السعودية على الساحتين الإقليمية والسنية يوازي الدور الذي أدّته مصر جمال عبد الناصر مع اختلاف طبيعة الصراع والظروف وتحديات كل مرحلة. وبالتالي، السعودية اليوم غير السعودية الأمس، والعلاقة التي نجح جعجع في إرسائها هي الأولى من نوعها مسيحياً ربطاً بالدور السعودي في هذه المرحلة وما يمثّل على مستوى الوجدان السني.
وإذا كانت القاهرة بوّابة العروبة في مرحلة من المراحل، ودمشق في مرحلة أخرى، فإنّ بوّابة العروبة اليوم هي الرياض. وفي الوقت الذي نجحت مصر عبد الناصر في تنظيم العلاقة بين المسيحيين والمسلمين بالحفاظ على السيادة والتوازن والاستقرار، خصوصاً في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وفشلت سوريا الأسد في هذه المهمة بسبب أطماعها بضَمّ لبنان إليها سياسياً وإخضاع كل الطوائف لقرارها ومشيئتها، نجحت السعودية في إرساء علاقة دولتية مع لبنان أولويّتها الحفاظ على الاستقرار وإنجاح التجربة اللبنانية.
ومن هنا العلاقة المسيحية-السعودية أساسية على ثلاثة مستويات: الحفاظ على الشراكة المسيحية-الإسلامية في الداخل، ترييح المسيحيين العاملين في الخليج، وتطمين المسيحيين المشرقيّين.
وإذا كانت مرحلة الاستقلال حَكمتها ثلاثة عوامل: الرعاية الدولية للمرحلة الجديدة، شخصية الرئيس رياض الصلح ودينامية تلك المرحلة لجهة حاجة كل الأطراف إلى استكشافها وتنظيم دورها ونفوذها، فإنّ الرعاية المصرية الناصرية-الشهابية للوضع اللبناني شكّلت التجربة المُثلى التي تستحق التكرار، إنما هذه المرة مع السعودية.
ولكنّ المعطى الجديد الذي دخل على المعطى اللبناني بعد اتفاق الطائف هو المكوّن الشيعي بعُمقه الإيراني، حيث لم يعد ممكناً اختصار الإسلام السياسي بالبُعد السني-العروبي، وهذا المعطى انسحب على كل المنطقة وتحوّل في السنوات الأخيرة إلى صراع مذهبي دموي بين السنة والشيعة.
وبالتالي، المعادلة التي حكمت لبنان بين الميثاقين، أي بين ميثاق العام ١٩٤٣ وميثاق «الطائف»، اختلفت في مطلع التسعينات وتعمّقت وتظَهّرت مع الخروج السوري من لبنان في العام ٢٠٠٥.
فالمعادلة «الجديدة» تقول بوجود مرجعيّتين للمسلمين: سعودية للسنّة وإيرانية للشيعة، وأيّ رهان على انهيار إحدى المرجعيتين هو وَهم، فضلاً عن أنّ التوازن بين المرجعيتين هو الذي يحكم لبنان اليوم الذي أقصى ما يمكن أن ينعم به هو الاستقرار من دون الوصول إلى تسوية سياسية راسخة وثابتة، خصوصاً إذا ما استمر الصراع السعودي-الإيراني على مستوى المنطقة، ولا مؤشرات تفيد بنهاياته القريبة.
ومن هنا، لا مصلحة بتجاهل هذا الواقع، لأنّ تجاهله لا يقدّم بل يؤخّر البحث عن الحلول التي تعيد الاستقرار إلى لبنان. فلبنان ٤٣ والطائف انتهى، لأنّ الصيغة التي قامت على شراكة مسيحية-إسلامية في الشكل ومارونية-سنية في المضمون تَبدّلت مع الصعود الشيعي في لبنان والإيراني في المنطقة، حيث بات من الضروري الوصول إلى التسوية التي توفّق بين السنة والشيعة والشركاء المسيحيين في لبنان.
وما لا يمكن تجاهله أيضاً، ربطاً بالوقائع التاريخية، هو أنّ المسلمين، سنّة وشيعة، يتأثرون بالعوامل الخارجية لأسباب دينية وعقائدية خارجة عن إرادتهم. وهذا التأثير هو الذي أدى إلى إسقاط مبدأ الحياد الذي قامت عليه التجربة اللبنانية، والتي أثبتت أيضاً انها بحاجة لرعاية خارجية إيجابية من أجل أن تستقيم، وذلك على غرار عبد الناصر، لا سلبية على غرار نظام البعث في سوريا، لأنّ الحياد فَرضَه عبد الناصر، لا التوافق الداخلي.
فلَو كان البُعد الإسلامي في لبنان اليوم ما زال سنيّاً، لكان الدكتور جعجع نجح في إعادة تجديد ميثاق العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين من خلال تحييد لبنان بإرادة سعودية، وتحقيق الشراكة الفعلية المسيحية-الإسلامية بالإرادة نفسها.
فالرعاية السعودية كفيلة بتبريد الشارع السني ومَنع أيّ تأثير خارجي على هذا الشارع. ومن هنا العلاقة «القواتية» مع السعودية تُرَيِّح السنّة، وتصحّح الشراكة بين المسيحيين والسنة من الباب الإقليمي، وتوثّق العلاقة المسيحية-السنية، ولكن هل هذه العلاقة كافية لإعادة الاعتبار لدور الدولة في لبنان؟
بالتأكيد كلا، كونها كافية على مستوى ترييح العلاقات المسيحية-السنية، وليس ترييح الوضع اللبناني الذي يتطلّب الوصول إلى مساحة مشتركة مع «حزب الله» والمرجعية الإيرانية، هذه المساحة غير المتوافرة اليوم لأسباب إيرانية تتصِل بنظرة الأخيرة إلى دورها ونفوذها في لبنان والمنطقة.
ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه بعد زيارة جعجع الأخيرة للسعودية: هل يستطيع العماد ميشال عون أن يُرسي تفاهماً مع طهران يقضي بتحييد لبنان وتسليم «حزب الله» سلاحه للدولة وانتزاع رعاية إيجابية للوضعية اللبنانية تَمنَع أيّ هَيمنة داخلية وتعيد الاعتبار لمشروع الدولة؟
فالدور المسيحي اليوم يجب ان يكون موجّهاً باتجاه الرياض وطهران. وإذا كان جعجع قد نجح في إرساء علاقة استراتيجية مع السعودية، فإنّ ذلك يكون بفِعل دوره ومواقفه وثباته من جهة، ورؤية السعودية أساساً للبنان بكونه دولة نموذجاً من جهة أخرى.
وإذا فشل عون يكون لعدم قدرته على تبديل النظرة الإيرانية للبنان من كونه ساحة لا دولة، ولكن في مطلق الأحوال الطابة اليوم في ملعب عون الذي عليه أن يسعى لدى حليفته إيران من أجل قيام مشروع الدولة مجدداً، ولَو وفق توازنات جديدة تأخذ في الاعتبار دور إيران وحزب الله، لأنّ عدم قيامه بهذه المهمة يعني تسليمه بالدور الإيراني، وفي حال سَعيه في هذا الاتجاه ولكن من دون نتيجة بسبب تمسّك ظهران بدورها الحالي، سيترتّب على احتمال فشله في هذا المسعى إعادة النظر بالصيغة اللبنانية التي أعطت أقصى ما عندها.
إلّا أنّ المحاولة تستحق، ولا بأس من علاقة مسيحية-سعودية استراتيجية، وأخرى مسيحية-إيرانية، حيث تشكل العلاقتان مصدر اطمئنان للمسيحيين، وأن يشكّل المسيحيون العنصر المشترك الذي يجمع السعودية وإيران، السنّة والشيعة حول لبنان.