ينتظر البحمدونيّون الصيف معوّلين على موسم سياحي أفضل من المواسم الماضية. يراهنون على الوضع السياسي العام وعلى عودة السيّاح الأجانب، خصوصاً الخليجيين من «الملّاكين» في المنطقة. يترقّبون أيضاً صعود أهل الضيعة للاصطياف. فنادق ومطاعم تشتاق عودة العمل والنشاط إلى حركة السوق.
لكل من بحمدون الضيعة وبحمدون المحطة مجلسها البلدي، وتفصل بين البلدتين أعمال حفريات في الساحة والمحوّل والنفق على خط عام بيروت ــــ شتورة. أنهكت هذه «الورشة» المنطقة طوال عقد من الزمن. إذ ما أن تنتهي حتى تبدأ من جديد لتصحيح الأخطاء. تستكمل «مؤسسة نقولا سروجي للتعهدات» المشروع (بعد أن بدأت به في 2009 شركة «الجنوب للإعمار»)، وقد شارفت الأعمال على نهايتها. مع ذلك يتّضح أن الخط العام بحاجة لمزيد من التعديلات لناحية السلامة المرورية والإِشارات. انعكاسات المماطلة سابقاً في المشروع، انسحبت على السوق الداخلي للبلدة، الموازي للخط العام.
اللجوء «حياة» في فراغ
يخيّم على بحمدون الجمود والفراغ خصوصاً في ساعات النهار. في 2004 و2005 و2008 حصلت حركة جيدة، وكان النزول من بحمدون المحطة إلى بعلشميه مثلاً «يحتاج الى نصف ساعة بالسيارة بسبب عجقة الناس والسوق»، بحسب صاحب مكتب عقاري. اليوم حلّ السوريون مكان الخليجيين، وهم يشكّلون «أضعاف أولاد البلدة. يعملون في مناطق أخرى، لكنهم يسكنون هنا. حتى قبل الأزمة السورية، كان كثير من السوريين يعرفون بحمدون جيداً». لا موجة بيع تحدث على صعد ملكية الأجانب، وفق صاحب المكتب، «ولكن، حتى لو باع الخليجي فإنه لا يخسر لأنه اشترى بالرخص. اشترى بـ10 دولارات المتر والآن يطلب في المتر 200 دولار». في المنطقة لا عمار ولا ورش أيضاً «وبالكاد هناك ورشتان أو ثلاث»، علماً أن أسعار الأراضي متدنية مقارنة مع مناطق أخرى تبعد عن بيروت، ومقارنة مع ما كانت عليه الأسعار في السبعينيات عندما وصل سعر المتر الى ألف ليرة!
الخليجيون يحافظون على أملاكهم إلاّ أن قلّة منهم تبيع لتشتري في تركيا وقبرص وسواهما
الشيخ سليم، من عاليه، يتابع إحدى الورش في بحمدون. يشير الرجل الذي يرعى أملاك عدد من الخليجيين في المنطقة إلى بناية من 4 طبقات على الجهة المقابلة: «مالكها عراقي ويريد أن يبيعها مع الأراضي المحيطة بها بـ300 ألف دولار». يعتقد الشيخ سليم بأن الخليجيين يحافظون على أملاكهم ويتريّثون في بيعها «إلاّ أن قلّة منهم تبيع لتشتري في تركيا وقبرص وسواهما». يعرف جيّداً أن «الحريّة التي تؤمّنها بحمدون يجعلها مرغوبة من الأجانب. لكن لا يبدو أنهم سيأتون بكثافة هالصيفيّة». يؤكد أيضاً أن السوريين هم الأكثر حضوراً في هذا المصيف. يشير إلى البناية التي يصلح فيها بعض الأعطال: «في هذه البناية كانت الليلة الواحدة في الشقة تساوي مئتي دولار. الآن تستأجر الشقق عائلات سورية بـ300 دولار في الشهر».
العم جورج لن يعود
بحمدون كما هي اليوم ليست كما يتذكرها السبعيني جورج الذي غادرها في الحرب. ضيعته قبل «الحوادث» كانت «جنة الدنيا. كان فيها نحو 40 أوتيلاً ولم يكن في بيروت سوى 10 أوتيلات». يحنّ إلى أيام كانت المحلات «دايماً كومبليه»، ولم تكن تعرف طعم النوم: «مطاعم، قهاوي، ملاهي، كاباريهات… الأكل والسهر وكل شيء في بحمدون». يشبّهها بشارع الحمراء في عزّه. «كان فيها 4 أو 5 صالات سينما، وأرتيستات، وغاليريات». يسأل بغضب: «هاي بلد هاي؟». برأيه لم يعد يسكن فيها اليوم سوى الكبار في السنّ «هيدا لي فاتح دكانة خضار وناطر». يؤكّد أنه لن يبدّد أمواله ومدّخراته ليرمّم منزلاً أو يبني آخر: «من بعد التهجير والتهبيط لشو؟». عندما خرج جورج من ضيعته كان في سن الـ 35 سنة. قضى 35 سنة أخرى خارجها. لم يعد يزورها: «في الصيف مثل وادي القرن، فكيف الحال في الشتاء؟»، يضيف: «في السابق كنّا نبني بيوتنا من الحجر والصخر، ونجعل حيطانها بعرض 40 سنتيمتراً. أصبح البناء اليوم كلّه باطون ولا يمكن السكن فيه». تعلّق جورج من حيث لا يدري بإحدى ضواحي بيروت التي هُجّر إليها. يحبّ عمله هنا ولا يريد أن يتركه ليعود إلى الضيعة: «الإنسان لا يمكنه العيش بلا عمل. والمسيحي الذي أنهكته الحرب ودمرت أملاكه يريد أن يعيش لذلك يبيع أرضه». قبل الحرب كانت بحمدون مركزاً للاصطياف، وكان الخليجيون يشترون فيها، وكان هناك جامعان لخدمة الحركة السياحية.
فعلت الحرب ما فعلته بالمدينة، لكنها لم تغيّر الكثير في نفوس أهلها. جورج لا يهتمّ لمن يبيع أرضه، جلّ ما يهمه أن يجد «الفرج» حين يتضايق مالياً. سوّي منزله بالأرض ولم يعد له رابط قوي بالضيعة سوى زيارات معدودة لمن بقي من أقاربه فيها. لا يهتمّ كثيراً لعمليات البيع والشراء ومسألة تملّك الأجانب، ويقول: «ما بتفرق لمين ببيع. شو رح ياكلوني؟». ويتابع «نحن نعيش مع الجميع، كان إسلام بيروت ومسيحيّوها يصعدون إلى بحمدون في الصيف، لم تكن هناك تفرقة، لم نكن نميّز بين هذا وذاك، الحرب هي التي فرّقت، السياسيون بخبثهم فعلوا وصوّروا الآخر كما يريدون». قبل هذا كلّه، كان لبحمدون وجه آخر أجمل.
مبانٍ «مسكونة» بالذكريات
تحيط ببحمدون قرى مجدل بعنا ورويسات صوفر وشانيه وبعلشميه والعبادية… على التلال المحيطة بها معالم كثيرة متروكة من زمن الحرب. «إذاعة صوت الجبل» على تلة في شانيه بُنيت كمتراس على رأس التلة وتحت الصخر والتراب. ثمة بيوت لحقها الخراب ومقفلة، بعضها يشغله نازحون سوريون. بيوت مرمّمة ومقفلة أيضاً، ومواقع شغلها سابقاً الجيش السوري. «أوتيل بحمدون» واحدٌ من أكبر المباني على طول الخط العام. هو «شبه» الـ «هوليداي إن» في بيروت. خلفه بيوت محروقة، وقبة كنيسة ظاهرة. يقبض الفندق الفارغ على روايات عديدة، وهو «مسكون» كما يعتقد كثيرون. تناوبت على المبنى الضخم ميليشيات الحرب. بعدها لم يستقر فيه الجيش اللبناني كثيراً، وهذا ما يعزّز اعتقاد السكان بأن «الفندق مسكون».