استهلكت مناقصة تأهيل محطات توليد الكهرباء في معملَي الذوق والجيّة خمس سنوات من عمر المعملَين ولم تلزّم بعد. هذه الفترة كانت كافية لتحويل وحدات التوليد في الجيّة إلى «خردة» لا جدوى من تأهيلها. أما في الذوق، حيث التأهيل لا يزال خياراً، فهناك إصرار على تلزيمه لشركة «انسالدو ــ متكا» التي كانت عارضاً وحيداً في المناقصة وقدمت سعراً مضاعفاً عن تقديرات الاستشاري
34 سنة عمر معملَي الذوق والجيّة. سنوات تتجاوز عمرهما الافتراضي. التأهيل والتطوير كانا حاجة ملحّة في عام 2010 عندما أقرّ مجلس الوزراء ورقة سياسة الكهرباء. كان يمكن لعملية التأهيل والتطوير أن تزيد عمر المعملين بضع سنوات إضافية وتزيد قدرتهما الإنتاجية وتوفّر حلولاً بيئية للانبعاثات الصادرة عنهما.
أما اليوم، فقد أصبحت الخيارات مختلفة بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على فضّ العروض من دون ترسية التلزيم ومباشرة العمل بالمشروع. في عام 2014، تبيّن أن تأهيل معمل الجيّة لم يعد مجدياً، وأن كلفة تأهيل معمل الذوق باتت شبه مساوية لإنشاء معمل جديد. رغم ذلك، سلكت وزارة الطاقة والحكومة (السابقة)، طريق استكمال تلزيم الذوق بكلفة مضاعفة خلافاً لما ورد في تقرير مجلس الإنماء والإعمار لجهة إعادة المناقصة.
لجنة بنسخة محدّثة!
في 13/10/2016 أقرّ مجلس الوزراء الآتي: «تكليف مجلس الإنماء والإعمار تشكيل لجنة مهمتها تقويم العرض الفني والمالي المحدّث المقدّم من قبل العارض لعملية تأهيل وتطوير معمل الذوق بمؤازرة الاستشاري، على أن تضم ممثلين عن: مجلس الإنماء والإعمار، وزارة الطاقة، وزارة المال ومؤسسة كهرباء لبنان، وعلى أن ترفع تقريرها إلى مجلس الوزراء لاتخاذ القرار المناسب».
يأتي هذا القرار بعد أكثر من ثلاث سنوات على فضّ عروض مناقصة تلزيم تأهيل وتطوير معملَي الذوق والجيّة. يومها تقدّم تحالف شركتي انسالدو اللبنانية ومتكا اليونانية بعرض لمناقصة الذوق، وتقدّمت شركة الخرافي ناشيونال الكويتية بعرض لمناقصة الجيّة، وتقدّمت شركة CNEEC الصينية بعرض للمناقصتين معاً. الشركة الصينية لم تقدّم الكفالة المصرفية المؤقتة المطلوبة منها، وأمهلها مجلس الوزراء أسبوعاً لتقديمها. بعد هذه المهلة، بدأت عملية فضّ العروض على ثلاث مراحل: الأولى هي مرحلة دراسة الملف العائد لتأهيل الشركة لجهة الخبرة الفنية والمؤهلات، والمرحلة الثانية تتعلق بدراسة الملف الفني الإداري، والمرحلة الثالثة هي دراسة العرض المالي.
سرعان ما تبيّن أن الشركة الصينية لم تتأهّل في المرحلة الأولى، ما أثار شبهات حول كون الشركة الصينية مجرّد واجهة لتغطية العروض الأخرى، إذ إنه لم يبق في ميدان المنافسة سوى شركة واحدة لكل مناقصة. وما عزّز هذه الشبهات، ما ورد في دفتر الشروط حول ضرورة إثبات الشركة العارضة قدرتها على القيام بأعمال التأهيل من خلال علاقتها مع الجهة الصانعة للمعمل. أي أن كل عرض لا يمكنه استقدام ورقة من الجهة الصانعة يستبعد.
كوارث مالية وتقنية
انتهت مراحل فضّ العروض في مطلع 2013. تبيّن أن العروض أعلى بكثير من تقديرات الشركة الاستشارية. «انسالدو ــ متكا» قدّمت عرضاً لتأهيل معمل الذوق بقيمة 298.8 ملايين دولار، فيما قدّمت شركة «الخرافي» عرضاً لتأهيل معمل الجية بقيمة 206.7 مليون دولار. شكّلت هذه الأسعار مفاجأة، وخصوصاً أن تقديرات الاستشاري، وهي شركة KEMA، تشير إلى أن كلفة التأهيل لا تتجاوز 250 مليون دولار للمعملين، لكن مجموع العرضين يبلغ 505.5 ملايين دولار، أي أكثر من التقديرات بنسبة 102.2%. يومها، تبيّن لمؤسسة كهرباء لبنان أن تقديرات الاستشاري لإعادة تأهيل كل كيلو واط ساعة تبلغ 170 دولاراً في الجية و330 دولاراً في الذوق، لكن العرضين رفعا الاسعار إلى 1000 دولار و500 دولار، وذلك بذريعة أن دفتر الشروط يفرض إعادة المعامل إلى قدرتها الاسمية الأصلية، على الرغم من أن عمر المعملين تجاوز 32 سنة.
أما في الشق التقني، فلم يتوقف النقاش في تفاصيل المناقصة التي جرى التحضير لها منذ 2010 إلى أن أفضى إلى ثلاثة خيارات: إعادة إجراء المناقصتين، صرف النظر عن التأهيل الشامل وبدء التحضيرات لإنشاء معملين جديدين، المضي فوراً بالمناقصة الحالية.
نتائج اعتماد أي من الخيارات الثلاثة جاءت على الشكل الآتي:
ــ خيار إعادة المناقصة الذي يتطلب نحو سنة في الحد الأدنى، سينجم عنه نقص حاد في التغذية لسنتين، وتحسّن جزئي في السنتين التاليتين.
ــ خيار إلغاء المعامل القديمة واستبدالها بمعامل جديدة سينجم عنه نقص حاد في التغذية لأربع سنوات متتالية، تكون واحدة منها قاسية.
ــ خيار المضي بالتأهيل فوراً، سينجم عنه نقص حاد للتغذية خلال سنتين، وتحسّن ملحوظ في التغذية خلال السنتين التاليتين.
هذه الخيارات كانت مطروحة في حينه، أي عند فض العروض، كجزء من مشاريع تهدف الى زيادة الطاقة الإنتاجية للكهرباء، منها المحركات العكسية في الذوق والجية (المنجزة وغير المشغلة) التي كان يفترض أن تضيف 272 ميغا واط على الشبكة في نهاية 2015، ومحطة دير عمار الجديدة التي كانت ستضيف 525 ميغا واط على الشبكة في سنة 2016، وإبقاء الـ 270 ميغا واط الآتية من البواخر على الأقل حتى عام 2018، وإنجاز 1500 ميغا واط بالتعاون مع القطاع الخاص في نهاية 2018، و1000 ميغا واط إضافية على الاقل بالتعاون مع القطاع الخاص في نهاية 2020.
تقنين بلا حلول
الصورة كانت سوداوية إلى هذه الدرجة. كل الخيارات تتطلب مجموعة من الإنجازات لم يصر إلى تحقيق أي منها إلى اليوم، ما عدا الإبقاء على البواخر والمحركات العكسية في الذوق والجية. الخيار الذي اعتمد في ذلك الوقت قضى بصرف النظر عن تأهيل الجيّة بسبب عدم جدوى التأهيل بعدما تجاوز المعمل عمره الافتراضي، والتركيز على تأهيل الذوق. جاء هذا الخيار بحجّة أن إنشاء معمل بديل في الذوق سيؤدي إلى تقنين قاسٍ لفترة تصل إلى أربع سنوات، فيما يمكن أن يكون التأهيل من دون إطفاء لكل مجموعات التوليد، ما يخفف من التقنين على المواطنين.
اللافت في ما جرى، أن السير بهذا الخيار صار عمره سنة ونصف سنة، لكنه بقي عالقاً من دون أي نتيجة نهائية، لا بل إن العارض الوحيد، أي تحالف «انسالدو ــ متكا» أجرى تعديلات على عرضه الأول وهو الذي ستناقشه اللجنة المكلّفة من مجلس الوزراء والتي تشكّلت قبل أيام معدودة فقط! وفي هذا الوقت، كان الاعتماد على بواخر الطاقة، قد بدأ يزداد مع تجديد العقود معها من دون موافقة مجلس الوزراء، بالإضافة إلى رفع كمية الطاقة المستقاة منها.
هل لا يزال الخيار الذي أقرّه مجلس الوزراء في تشرين الأول 2016 خياراً مجدياً في ضوء هذه التطوّرات؟
تقول مصادر مطلعة على الملف، إن سقوط حجّة العامل الزمني اللازم لإجراء عملية التأهيل كبديل من إنشاء معمل جديد، توجب الالتفات نحو خيار إنشاء معمل جديد بدلاً من استكمال المناقصة التي كان فيها عارض وحيد هي شركة انسالدو ــ متكا. وتقول المصادر إنه لو اعتمد خيار إعادة المناقصة كما اقترح مجلس الإنماء والإعمار ومؤسسة كهرباء لبنان في منتصف عام 2014، وذلك بعد إجراء التعديلات اللازمة على دفتر الشروط لفتح المنافسة أمام العارضين المحتملين، لكانت نتائج المناقصة الجديدة قد أنجزت. أما الخيار المعتمد حالياً، أي السير بنتائج المناقصة الحالية فهو لا يخدم سوى الشركة الوحيدة التي قدّمت عرضاً يفوق تقديرات الاستشاري بنسبة 100%. أما عملية التفاوض مع عرض محدّث من الشركة ستدرسه اللجنة المكلّفة من مجلس الوزراء، فهو لن يأتي بنتائج مالية كبيرة على الخزينة، إذ إن مؤسسة كهرباء لبنان أنجزت خلال هذه الفترة أعمال تأهيل وتطوير متفرقة كان منصوصاً عليها في المناقصة، بما تقدّر قيمته بنحو 50 مليون دولار، وبالتالي فإن كلفة عرض الشركة مقارنة مع تقديرات الاستشاري تصبح أعلى بنسبة إضافية تبلغ 33%، أي أن الكلفة الإجمالية للعرض صارت أعلى بنحو 133% من تقديرات الاستشاري، وهذا رقم يخضع أيضاً للتعديل في ضوء تسعير بعض أجزاء العرض باليورو الذي كان أغلى في السنوات الماضية، أي أن تسعير اليورو اليوم يوجب خفض السعر أكثر. أما كلفة إنشاء معمل جديد اليوم، فهي لا تزيد على 450 مليون دولار في أقصى حالاتها، وبالتالي فإن هذا الخيار يبدو مجدياً أكثر من غيره.
هذا الوضع بمجمله سيكون على طاولة اللجنة المكلّفة من مجلس الوزراء وقوامها: خليل مطر عن مجلس الإنماء والإعمار، كريم عسيران عن وزارة الطاقة والمياه، أحمد الموسوي عن مؤسسة كهرباء لبنان ورجاء الشريف عن وزارة المال.
شروط غير مطابقة
في 20/2/2013 قرّر مجلس الوزراء الآتي: الإجازة لمجلس الإنماء والإعمار فضّ العرض الفني ــ الإداري والمالي للمجموعة المندمجة «متكا ــ انسالدو» في إطار مناقصة المجموعة الأولى (معمل الذوق)… على أن يكون عرض كل شركة متوافقاً مع دفتر الشروط وأن يكون العرض المالي لكلّ منهما لا يتجاوز التقديرات الموضوعة من قبل الاستشاري وعرض النتائج على مجلس الوزراء».
شروط الممولين
إن مشروع تأهيل وتطوير معملَي الذوق والجيّة مموّل من الصندوقين العربي والكويتي اللذين فرضا شروطهما على هذه المناقصة ولم يقولا كلمتهما النهائية بشأن الخيارات التي اعتمدها مجلس الوزراء ووزارة الطاقة لجهة تأهيل معمل الذوق بدلاً من إنشاء معمل جديد. وقد تبيّن أن الصندوقين وافقا على مبدأ التفاوض مع شركة انسالدو ــ متكا من دون إعطاء موافقة نهائية على النتيجة. الصندوقان اشترطا أن تكون المفاوضات خاضعة لموافقتهما، وأن يتم إدخال تعديلات على قائمة البضائع المرفقة بالاتفاقية من أجل تخصيص القرض لمعمل الذوق بدلاً من معملَي الذوق والجيّة معاً. وأفاد الصندوقان بأن عرض انسالدو ــ متكا سيخضع لتقويم من شركة استشارية اسمها Mott Macdonald ويقدّم لهما تقريراً بذلك في أسرع وقت ممكن. وهذا يعني أن موافقة الممولين المبدئية على التفاوض لا تعني موافقة نهائية.
شركة أكبر من الكلّ
ثمة شكوى واسعة في مجلس الإنماء والإعمار وفي مؤسسة كهرباء لبنان من كون شركة انسالدو هي الشركة الوحيدة التي تمكّنت من فرض نفسها بالقوة على قطاع الكهرباء صيانةً وإنتاجاً وتشغيلاً على مدى سنوات طويلة. هذه الشركة مملوكة وتدار من عهد بارودي المعروف بكونه رجل كل العهود منذ عقود طويلة، وهذا ما يفسّر، بحسب مطلقي الشكاوى، الإصرار على السير بنتائج مناقصة الذوق وتلزيم عارض وحيد بمبلغ مضاعف عن تقديرات الاستشاري.