الأرجح أنّ حراكاً فرنسياً – أميركياً حول لبنان سينطلق في الأسابيع القليلة المقبلة، ويترسّخ اعتقاد في باريس بوجود فرصة جدّية، ليس فقط لإحياء المبادرة الفرنسية التي ماتت في نهايات عهد الرئيس دونالد ترامب، بل أيضاً لتحقيق حلول عملانية للمأزق اللبناني. ولكن، هل هذا الانطباع صار في محلّه بعد وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض؟ أي هل نجح رهان الرئيس إيمانويل ماكرون على انتظار خروج ترامب؟
مثيرٌ أن يكون لبنان حاضراً في أول اتصال قمة أميركي – فرنسي، فهو يؤكد أهمية الملف اللبناني لدى الأميركيين والفرنسيين. ولكن، في الخبر الصادر عن الرئاسة الفرنسية، هناك 3 ملاحظات:
1 – على الأرجح، الفرنسيون – وليس الأميركيون – هم المتحمسون حالياً لإنجاز خطوات عملانية في لبنان.
2 – إنّ الإعلان عن تعاون الطرفين في الملف اللبناني جاء متلازماً مع الإعلان عن تعاونهما في ملف إيران، وهذا يوحي بأنّ الطرفين مقتنعان بوجود تلازمٍ بين الأزمتين والحل المفترض لكل منهما.
3 – أعرب الطرفان عن أنهما سيعملان معاً «في الشرقين الأدنى والأوسط». وإنّ التحديد الجغرافي للبقعة المقصودة، وفق المفهومين الأميركي والأوروبي، يبدأ من شرق المتوسط وحدود تركيا ويشمل إسرائيل والمشرق العربي وصولاً حتى إيران.
يوحي هذا الكلام أن الإدارة الأميركية الجديدة ستكون في صدد عملية خلط للأوراق على مستوى علاقاتها الدولية، وستكون ركيزتها عودة التحالف مع الشركاء الأوروبيين. وهذا الأمر يتناقض مع نهج ترامب المُتفلِّت من ضوابط العلاقات التقليدية مع أوروبا وتغليب المصالح في شكل مطلق.
وملامح هذه العودة ظهرت في واشنطن منذ اللحظة الأولى لدخول بايدن إلى البيت الأبيض، وتَجلّت خصوصاً بعنوان عودة واشنطن الفورية إلى اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، وبالتقارب السياسي الموعود مع الأوروبيين حول غالبية القضايا الدولية.
وسَبق لرئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال أن دعا بايدن إلى الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن، ضمن «ميثاق تأسيسي جديد للعلاقات عبر الأطلسي». ويقول الأوروبيون إنهم يراهنون على وجود صديق لهم في البيت الأبيض طوال 4 سنوات مقبلة.
وتبلغ المراهنة على بايدن ذروتها مع باريس، فالفرنسيون تفرّدوا عن البريطانيين والألمان بالتباين مع ترامب في ملفات عدّة، ومنها إيران، كما تمايزوا عنه في تعاطيهم مع ملفات أخرى كـ»حزب الله» في لبنان. لكنّ الفرنسيين اشتبكوا مع الإدارة الأميركية السابقة في مسألة التعاطي مع تركيا، وهذا الاشتباك ترك بصماته العميقة في العلاقات بين الطرفين.
تَصادمَ ماكرون مع ترامب في العام 2018، خلال زيارته فرنسا للاحتفال بذكرى الحرب العالمية الأولى. آنذاك، سَخر من مضيفه الفرنسي الذي أطلقَ فكرة تشكيل جيش أوروبي لحماية القارّة، ليس من الصين وروسيا فحسب، بل أيضاً من الولايات المتحدة، وأيّدَته في ذلك مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل.
غَضبَ ترامب آنذاك، وقال: «ألمانيا، لا سواها، كانت مصدر تهديد لفرنسا في الحربين العالميتين. وفي باريس، كانوا قد بدأوا يتعلمون الألمانية قبل وصول الولايات المتحدة». وأضاف: «مشكلة إيمانويل (ماكرون) أنه يعاني تدني شعبية وصل إلى 26 % وبطالة بلغت 10 %».
لكنّ المواجهة الأكثر سخونة بين الرجلين هي تلك الصامتة، والتي دارت حول نهج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي فتح المواجهة ضد فرنسا في كل الاتجاهات، من ليبيا وحوض المتوسط واليونان إلى ناغورني كاراباخ. ويعتقد الفرنسيون أنّ ترامب هو مَن وَفّر التغطية لأردوغان لينفّذ خطواته التوسعية على حساب المصالح الأوروبية.
وفي الملف الإيراني، لم يستجب الأوروبيون لدعوة ترامب بالانسحاب من الملف النووي. ويتّهمهم الرئيس الأميركي السابق بالالتفاف وإنقاذ إيران من الحصار. لكنّ القاسم المشترك بين الأميركيين والأوروبيين هو عدم السماح لإيران بتهديد أمن إسرائيل.
أمّا في لبنان، فالفرنسيون كانوا يميلون إلى تسوية يشارك فيها «حزب الله»، لكنّ الأميركيين وضعوا «فيتو» عليها. ولذلك، جمَّد ماكرون مبادرته وراهَن على انتظار بايدن.
وسط كل هذه المعطيات، ينتظر المراقبون كيف سيتصرّف بايدن في الملف اللبناني، أي إلى حدّ سيمضي في الضغط على «الحزب». وهم ينتظرون: في سوق المقايضات الدولية والإقليمية التي ينخرط فيها الأميركيون والفرنسيون، قد يتم الاتفاق بالإجماع على فكّ ارتباط سوريا بإيران
ليس بسيطاً الجواب عن هذا السؤال، فالولايات المتحدة ستتعاطى مع ملف «حزب الله» باعتباره مرتبطاً عضوياً بالملف الإيراني، بما يشكّله من أخطار، خصوصاً على إسرائيل. وبالتأكيد، سيراعي الأميركيون مصالح إسرائيل الأمنية في هذا الملف. وفي المقابل، ستزداد مخاوف الفرنسيين من انهيار لبنان، ولذلك، هم سيضغطون لفكّ الارتباط بين إيران و»حزب الله» ودعم حياد لبنان.
وفي سوق المقايضات الدولية والإقليمية التي ينخرط فيها الأميركيون والفرنسيون، قد يتم الاتفاق بالاجماع على فكّ ارتباط سوريا بإيران، ضمن تسوية سياسية على مستوى الشرق الأوسط. وهذا الأمر يريح إسرائيل، ويُضعف «حزب الله» الذي يُمسك اليوم بالسلطة، ويقطع اتصالَه بإيران نهائياً.
ولكن، في هذه الحال، ووسط اهتراء سياسي داخلي يُخشى أن يكون مقصوداً ومُخططَاً له، ثمّة مَن يخشى أن تذهب الخيارات قسراً إلى أماكن خطرة تحت عنوان الواقعية، ومنها أن تتم طَمأنة «الحزب» من خلال صيغةٍ يحظى فيها مجدداً بالالتفاف والدعم من نظام الرئيس بشار الأسد. وقد لا يمانع أحد من اللاعبين الخارجيين الكبار في حصول ذلك، ما دام يؤمّن شكلاً من أشكال «الاستقرار» في لبنان وسوريا، ويُبعد إيران عنهما، ويريح الجميع.