الخميس ما قبل الماضي استهدفت طائرات التحالف الدولي قوات محسوبة على إيران في منطقة الشحمي على طريق دمشق – بغداد الدولي، كانت متّجهة نحو معبَر التنف الحدودي الذي تتّخذه قوات التحالف قاعدةً عسكرية لها. وكانت الغارة رسالةً أميركية لإيران مفادُها أنّه ممنوع عليها الاقتراب منه، وأنّ فكرة عزلِ النفوذ الإيراني في سوريا عبر إقفال خطوط إمدادها من العراق إلى سوريا واستدراكاً إلى لبنان، أصبح سياسة أميركية شِبه معلنة.
تَزامنَ هذا التطوّر مع قمم الرياض الثلاث التي أكّدت وجود تصميم سعودي مدعوم أميركياً لعزل نفوذ إيران في دول المشرق. وجاء تأكيد الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله أمس الأول «أنّ التهديدات الاميركية والسعودية لن تغيّر شيئاً من واقع الحال في الميدان، بدليل الانتصارات التي يُحرزها محور المقاومة في سوريا»، بمثابة أولِ ردّ من جانب محور دمشق – طهران، عن قبول التحدّي والاستعداد لبدءِ المنازلة الكبرى.
وما كان يقصده نصرالله تلميحاً بـ«الانتصارات» هو الإشارة الى إطلاق «حزب الله» وقوات أُخرى محسوبة على ايران بالتحالف مع الجيش السوري، قبل ايام عدة معركة كبرى في سوريا، حملت اسم «معركة الفجر الكبرى»، وهي تدور على ثلاث جبهات في آنٍ معاً وتقع على مساحات واسعة من ريف محافظات حمص ودمشق والسويداء.
وبعد ايام من بدء هذه المعركة اعلنَت فصائل من «الجيش الحر» تدعمها غرفة موك والتحالف الدولي، بدءَ معركةٍ مضادة حملت اسم «بركان البادية».
وفي ضوء هذه التطوّرات العسكرية المترافقة مع نتائج قمّة الرياض الاميركية ـ السعودية، بات المسرح السوري الآن ممهّداً سياسياً وعسكرياً لبدء معركة كبرى بين أجندة دولية وإقليمية تريد قطعَ طرقِ الإمداد الحدودية بين العراق وسوريا ولبنان التي تغذّي نفوذ إيران في المشرق العربي، وبين أجندة أُخرى ينخرط فيها «حزب الله» والجيش السوري والحرس الثوري الإيراني لكسرِ هذه الخطة وفرضِ معادلة تثبيتِ قوّةِ تحالف طهران – دمشق – بغداد – «حزب الله» في الديموغرافيا العسكرية الممتدة من العراق حتى شواطئ المتوسط اللبنانية.
وتتقدّم معركة «الفجر الكبرى» التي يشارك فيها «حزب الله» مع الجيش السوري بثِقل كبير، على ثلاثة محاور: الأول يتّجه إلى السيطرة على البادية السورية الواقعة ضمن الحدود الإدارية لمحافظة ريف دمشق.
والثاني تجسَّد في شنّ هجوم «فكَّي كمّاشة» من الجهة الجنوبية لريف حمص ومن الجهة الشمالية لريف دمشق، بغية التقاءِ الهجومين عند نقطة خان العنية، وهو ما حصَل فعلاً، ما مكّنَ القوات المهاجمة من السيطرة الكاملة على أوتستراد تدمر – دمشق ومناطق استراتجية كانت تحتلّها «داعش» وفرض حصار كامل على مناطق المعارضة في القلمون الشرقي، ما أجهضَ أحدثَ خطة للأخيرة لفكّ الحصار عن هذه المنطقة. والثالث يَستهدف التمدّدَ داخل البادية الشرقية السورية.
حتى اللحظة حقّقت «معركة الفجر الكبرى» نتائجَ ملموسة تمثّلت بالسيطرة على نحو 13000 كيلومتر مربّع، ما أدّى إلى توسيع نطاق الأمن في المناطق المركزية لسوريا وشرق محافظة دمشق، وتسليط الضوء على فكرة أنّ تحرير البادية السورية من «داعش» حتى حدود سوريا مع العراق والأردن، تنفّذها الدولة السورية وحلفاؤها وليس قوات التحالف و»الناتو» السنّي. وبحسب معلومات مقاطعة، فإنّ الفكرة الأساسية لخطة «الفجر الكبرى»، ولدت، قبل أسابيع ومع تعاظم مؤشّرات التفاهم السعودي ـ الاميركي على هدف إخراج إيران من سوريا وقطعِ طرقِ إمدادها الاقليمية في منطقة المشرق العربي، ومفادُها بَلوَرةُ استراتيجية في طهران ودمشق لم تكن موسكو بعيدة عنها، أطلِق عليها اصطلاحاً معركة «ملء الفراغ» أو «حرب المساحات»، ومن أهدافها الأساسية أمران:
الأوّل، الانتقال من مرحلة تمركُز النظام السوري في المدن المأهولة، والبدء بمرحلة إعادة استعادته للمناطق الخالية. معروف أنّ النظام بدأ عام 2012 بالانسحاب من أجزاء واسعة من البادية السورية إلى المدن الداخلية المأهولة، وذلك تطبيقاً لمفهوم أنّ الانتشار في المناطق الخالية عملية «مكلِفة وعبثّية».
وكان تنظيم «داعش» قد استغلّ تطبيقَ الجيش السوري هذه النظرية ليملأ بدوره القسمَ الأكبر من هذا الفراغ، بسيطرته على عقدة الطرق الرئيسة التي تربط المحافظات في البادية السورية والمناطق الزراعية المتصلة بها، وذلك في جنوب شرق سوريا ووسطها وشرقها وشمالها، وحصل ذلك في مناطق لا تتجاوز نسبة الكثافة السكانية فيها شخصين لكلّ كيلومتر مربّع، ويسكنها البدو ورعاة الماشية الذين يقيمون حول واحات المياه.
ووفق استراتيجية ملءِ الفراغات المقرّرة أخيراً في دمشق وطهران، فإنه ستتمّ من خلال «معركة الفجر الكبرى» استعادة هذه المناطق وتحرير عقدة الطرق التي تربط البادية بالمحافظات السورية من يد «داعش».
وهو أمرٌ يمهّد لتحقيق الهدف الثاني ذي الصلة بكسرِ المشروع الأميركي ـ السعودي الهادف إلى عزلِ إيران في سوريا. وبموجبه سيُصار وفق «معركة الفجر الكبرى» إلى تأمين طريق دمشق ـ بغداد الدولي، والطريق المؤدية إلى مدينتَي تدمر ودير الزور في البادية السورية، وذلك ضمن خطة لمحاصرة منطقة القلمون الشرقي، وحصر وجود المعارضة قرب الحدود الجنوبية مع الأردن فقط.
وأيضاً قطع الطريقِ على فصائل «الجيش الحر» التي يدعمها التحالف الدولي لمنعِها من الوصول إلى دير الزور، وذلك لتمكين إيران من تأمين خطوط إمداداتها الاقليمية الممتدة من طهران الى الموصل فدير الزور مروراً بدمشق وصولاً إلى بيروت.
نقطة الذروة المنتظرة في «معركة الفجر الكبرى»، ستبدأ عندما يصل مسار هجوم قوات التحالف بين «حزب الله» والحرس الثوري والجيش السوري، إلى نطاق عمليات التحالف الدولي وفصائل المعارضة المحسوبة عليه، وخصوصاً في معبر التنف الواقع عند مثلّث الحدود الأردنية ـ السورية ـ العراقية والذي توجد بالقرب منه قاعدة عسكرية للتحالف الدولي. وقبل أيام هدّد «الجيش الحر» إيران من مغبّة الاقتراب من التنف، ولكنّ إيران لم تستجب قبلاً لرسالة الغارة الأميركية الأخيرة.
وخطاب نصرالله أمس الأول يؤشّر إلى أنّ القرار السياسي بالتصدّي لأيّ ترجمة عملية لقمّة الرياض السعودية ـ الأميركية في خصوص عزل إيران في سوريا، قد اتُّخِذ، و»معركة الفجر الكبرى» هي ذراعُه العسكرية. والسؤال الآن هو كيف ستردّ واشنطن ومحور «إعلان الرياض»؟