تأتي ذكرى لبنان الكبير مع أزمة سياسية وشعور يستعيده المسيحيون، عند كل مفترق، عن مكانهم في هذا النظام الذي يريد بعض اركانه استبعادهم عنه. الامر الذي يولد حكما استفاقة شعور الفدرالية مع كل ازمة
لم تكن قضية المشاعات في العاقورة، وفي «جبل لبنان القديم»، وقبلها وبعدها لاسا، لتأخذ هذا الحجم من الاستنفار المسيحي، لو لم تكن مشاعر القلق قد باتت اكبر من ان تسمح بمعالجة القضايا الحساسة بهدوء.
قضية العاقورة، التي وقف اهلها ومعهم احزاب ونواب وشخصيات مسيحية ضد القرار الذي كان يستهدف مشاعاتها، انعكاس للقرارات التي تهرّب سرا، ولتهديدات تقال علنا ولحالة سياسية بدأت تتفاقم، لا يفترض بأي عاقل من السياسيين ان يستخف بها، في توقيتها وظروفها ودلالاتها المستقبلية، لأن خطورة ما حصل في العاقورة من فعل ورد فعل، انه جاء في لحظة يستشعر فيها المسيحيون اصلا انهم لم يعودوا جزءا من هذا النظام، وفي لحظة تعود مشاعر الفدرالية لتستفيق عند كل مفترق حساس.
بين الكلام المنمق والتهديدات المبطنة والمكشوفة، كلام من دون قفازات عن حقيقة ما يقوله مسيحيون، سواء انتموا الى التيار الوطني الحر او القوات اللبنانية او الكتائب او 14 آذار بمستقليها واركانها الحقيقيين. كلام يقال صراحة، ولا يشبه الشعارات التي يرددها على شاشات التلفزيون الموظفون السياسيون لدى تيار المستقبل او الذين يتحالفون مع حزب الله والرئيس نبيه بري لغايات انتخابية وسياسية، والنواب والوزراء من ذوي المصالح الضيقة. ما تقوله القيادات المسيحية الاساسية وقاعدتها المدنية، والدوائر الدينية في حلقاتها الفعلية، وتكرره اليوم، بعيدا عن سلوكيات واخطاء سياسية ترتكبها القوات والتيار والكتائب والمستقلون المسيحيون وهي كثيرة هذه الايام، وعن رهانات خاطئة، وعن الانشغالات بمهرجانات الصيف، هو الاتي:
في لحظة مصيرية كالتي يمر بها لبنان اليوم، وعند اول احتكاك حكومي، هناك من يصر على القول للمسيحيين ان لا مكان لكم في هذه التركيبة. وان التركيبة الفعلية، للمرة الالف، تراوح بين تلك التي اقامها النظام السوري عام 1990، والتحالف الرباعي الذي قام عام 2005 لمنع التوجهات المسيحية آنذاك للعودة الى الحكم وتطبيق المناصفة الفعلية. ابعد من ذلك، لا يمكن للقوى المسيحية ان تكون الا من ضمن ما توفره للقوى الاخرى في محطات سياسية تحتاج فيها الى وجود مسيحيين معها. لا اكثر ولا اقل. والا فان امام المسيحيين خيارات بديلة، حدها الادنى التلويح بالغاء الطائفية السياسية وانشاء مجلس الشيوخ (بحجة تطبيق الطائف) ورفض قانون الانتخاب الذي يؤمّن المناصفة. وحدّها الاقصى تهديدهم بالشارع بحسب ما فعل الرئيس نبيه بري او برفض مطلق لانتخاب المرشح العماد ميشال عون، ولو اتفقت عليه اكبر كتلتين مسيحيتين، القوات والتيار الوطني الحر، بحسب ما يهددهما تيار المستقبل.
في هذه اللحظة المصيرية ذاتها، يقابل اي تصعيد مسيحي او حتى اي مطالبة بقضية، كما كان واقع الحال مع المشروع الارثوذكسي ومع قانون استعادة الجنسية وتشريع الضرورة، وبفرض الشراكة في الحكومة اليوم، باتهام المسيحيين بالدلع السياسي تارة، وتارة اخرى بالاصرار على المضي بعقد جلسات الحكومة حضروا او لم يحضروا كما يصر تيار المستقبل وبري معا، وكأن وجود المسيحيين في السلطة لا يقدم ولا يؤخر. ليست مشكلة عابرة التي تحصل اليوم في الحكومة، لانها لا تقتصر فقط على التيار الوطني الحر، بل هي كانت من ضمن الاسباب التي جعلت ايضا القوات اللبنانية لا تشارك في طاولة الحوار او في الحكومة. حتى حزب الكتائب استقال بسبب ملف النفايات الذي كلف لبنان ملايين الدولارات من سرقة ونهب لمصلحة شخصيات وسياسيين معروفين بالاسم، لكنه عوقب واتهم بالابتزاز، وأبقيت النفايات في الشارع، فيما تجرى مناقصات مكشوفة لحساب شخصيات في تيار المستقبل، من دون اي خجل، ولا يعترض احد. يستشعر المسيحيون بالجملة انهم مستهدفون في كل قضية، كما حصل في ملف امن الدولة على زغل، حين اعترضوا بكل فئاتهم، من دون ان يرد احد عليهم. القصة لا تتوقف هنا. يصرّ الطرفان السني والشيعي على تفسير التمثيل المسيحي بحسب تقويمهما له، ويريدان وفق ذلك التعامل مع القيادات المسيحية التي عادت بعد عام 2005 كما كانت الحال مع مسيحيي العهد السوري. يقول احد السياسيين: «عام 2008 فرضت الثنائية السنية الشيعية العماد ميشال سليمان رئيسا، وحددت له عدد الوزراء في الحكومة. واليوم يتعامل الطرفان مع سليمان (رغم خلاف حزب الله معه على «المعادلة الخشبية») تماما كما تعامل النظام السوري مع النائب ميشال المر (وغيره)، بوصفه يمثل المسيحيين».
اليوم هناك من يقول للمسيحيين ان رئاسة الجمهورية ليست نهاية المطاف ولا حتى اوله، وان السلة هي الاهم. وهناك من يقول للمسيحيين اننا نعين موظفي الفئة الاولى من المسيحيين بالتوافق، اما موظفو الفئة الاولى من المسلمين فيعيّنهم المستقبل وبري، في رئاسة الجامعة اللبنانية وفي الامن العام، وفي طيران الشرق الاوسط واوجيرو، والكثير من ادارات المصالح والمؤسسات العامة.
هذه الآراء لا تقال في الهواء، او تردد هباء ولمجرد الكلام. هي تقال يوميا منذ اشهر في اوساط ودوائر معروفة، ولا تنتقص من حدّتها الاخطاء السياسية التي يرتكبها السياسيون المسيحيون. فالحوارات السياسية اليومية شيء، وعمق الازمة الحقيقية والعلاقات بين المكونات اللبنانية امر آخر. حقيقة ما يقال هو هذا الشعور الذي يستفيق مجددا، عن النظام «الذي لا يريدوننا» فيه وعن الديون التي «دفعت من جيوبنا ولم تصرف في اي منطقة من المناطق المسيحية وعن كثير من الملفات التي استهدف فيها المسيحيون. هذا الكلام الذي يستعاد اليوم، ليس عبثا ان يتزامن مع اعلان دولة لبنان الكبير. حجم هذا الاعلان التاريخي، لا يقاس قطعا، بمسألة المس بـ»بجبل لبنان القديم»، لكن الشعور الذي خلفه الفراغ الرئاسي، الذي يحاول البعض التخفيف من اهميته، والوضع في الحكومة وفي المجلس النيابي وقانون الانتخاب وادارات الدولة، يحتم العودة الى مناقشة خيارات اساسية وجوهرية، لا يجوز التغافل عنها في اللحظات المصيرية التي يعيشها لبنان، حتى لو حلت اليوم الازمة السياسية الراهنة وجرت تسويات ظرفية حولها. لان القضية باتت اعمق واكبر من مجرد تعيينات او مسائل سياسية معلقة، طالما ان المشاعر المكبوتة تستفيق عندما تكثر التهديدات والازمات. الا اذا كان الهدف فعلا ان يولد الضغط الانفجار. واول الغيث عودة الكلام عن الفدرالية، في امكنة لا يجوز التقليل من اهميتها.