IMLebanon

كذبة كبيرة: الخطر الأمني في بيروت

يدور الآن نقاشٌ، بل في الواقع تُشَنُّ حملةٌ كاملة من مواقع وبأشكال مختلفة، حول التهديد الأمني الذي “بات” يمثله الحراك المدني غير الطائفي. الحقيقة هذه كذبة كبيرة جدا.

بدأت الكذبة تنطلي على الرأي العام باعتبارها السلاح بل أحد الأسلحة التي كان من المتوقع أن تلجأ إليها القوى المسيطرة على الحياة السياسية عاجلا أم آجلاً. في وقت من الملاحَظ كيف اتحدت هذه القوى، معظمها علناً وبعضها ضمناً، على الهجوم على الحراك الجديد من نوعه من حيث الفعالية الشارعية وبالتالي القدرة الإحراجية لا التغييرية التي يمتلكها.

القوى المتصارعة التي تغرقنا في حرب أهلية باردة، وأحياناً ساخنة، منذ عشر سنوات، هي الآن متحدة في ترويج أسطورة تهديد الأمن الذي يقوم به الحراك غير الطائفي والمطلبي والكاشف لقصور الأداء الحاكم في المجال الخدماتي.

تعالوا نفكّك الخرافة السامة:

في الواقع وبمعايير الأخطار الأمنية الحقيقية لم يشكِّل هذا الحراك في أكثر أيامه تصاعدا أيَّ تهديد للأمن. التهديد للأمن في بلد كلبنان هو الصدام الطائفي أو المذهبي في الشارع، وهو انقسام القوى الأمنية، وهو الهجوم العسكري على هذه القوى مثلما حصل في عرسال.

أين الحراك من كل ذلك؟

لا شيء من هذا بل مجرد اعتراضات سلمية صغيرة جدا. نعم تحريك حاجز من الأسلاك الشائكة تحت عدسة التلفزيونات هو “مزحة” بالمعايير الأمنية الجدية كما يعرف قادة الميليشيات الذين يديرون النظام الطائفي ويعرف الذين تربّوا في أحضانهم، حتى أن مجموعة زعران صغيرة محميّة من حي مجاور نزلت عدة مرات واعتدت على المتظاهرين والمعتصمين وكأنها في رحلة سياحية.

ثم هذه الكذبة الأخرى المتصلة بالأولى وهي الاختباء وراء “كرامة” قوى الأمن. قوى الأمن ليست طرفا في الصراع السياسي وليست كرامتها المهددة، فهؤلاء الشباب المتظاهرون يحترمونها ويحتاجون إليها أكثر بكثير من السياسيين الذين يركبون على ظهرها ويديرونها لصالحهم لأن الحراك، وإن يكن من المؤكد أنه ليس قادرا على التغيير السياسي، فقد مرّغ كرامة الطاقم الحاكم وأحرجه بكل أطرافه الأساسية كما لم يحصل منذ الحرب الأهلية.

إدخال بل إقحام كرامة قوى الأمن كذبة كبيرة غير مطروحة أصلاً.  كرامة قوى الأمن  ليست إلا عباءة للإختباء وراءها.

هؤلاء المتظاهرون وخصوصا الليبراليين واليمينيين منهم الذين أطلقوا شرارة الحراك وانضم إليهم عندها شبابٌ ناقمٌ من كل الاتجاهات بمن فيها اليسارية، هم في العمق جمهور الدولة المسحوقة تحت أقدام قادة التحريض الطائفي الحاكم. فبكونهم من كل شرائح الطبقة الوسطى ومن طلبة وخرّيجي الجامعات المنخرطين في عمق الحياة المدنية المدينيّة هم في الواقع جمهور دولة القانون المشلولة على يد قوى التسلّط التي باتت عريقة.

المفارقة الهائلة أن هذا الحراك هو علامة على إمكان لبنان كبلد طبيعي وليس العكس. البلد الطبيعي هو الذي يتظاهر فيه الطلاب والشباب تحت شعارات التغيير السلمي. والبلد الطبيعي هو البلد الذي تقف فيه الشرطة لا الجيش لحماية الأمن الداخلي. هذان الشرطان متوفّران عميقا في الحراك المدني.

ولكن البلد غير طبيعي، وما التظاهرات الشبابية سوى استراحة مؤقتة يقدِّم فيها لبنان المجتمع طليعته الحداثية في لحظة فعالية اعتراضية “أخيرة” قبل أن تلتحق هذه الطليعة بالخارج أي قبل أن تهاجر. البلد غير طبيعي لأن هذه هي طبيعة الحكم فيه والذي يقوم على معادلة “النظام القوي والدولة التافهة”.

الكذبة الأخرى المتوالدة من الكذبة الأصلية هي اعتبار الحراك مهدِّداً للنشاط الاقتصادي. على العكس أنا أتوقّع ازدهارا تجاريا في وسط بيروت وكل المناطق التي طالها وسيطالها الحراك لأنه أضفى على هذه المناطق طابعا سلميا ومدنيا جذابا. ونصيحتي المتواضعة للمستثمرين أن يحضِّروا لاستثمارات تجارية جديدة في كل شوارع الحراك وأظن أن العديدين منهم لا ينتظرون هذه النصيحة بل بدأوا بالتحضير لها. فالسياحة والتجارة في وسط بيروت وفي المنطقة الممتدة من الصنائع إلى الجميزة خلال هذا الحراك تمثِّلان جاذبية مدنيَّةً لبيروت وبالتالي استثمارية لأن رائحة السلام المدني تفوح من هذا الحراك بما يغطي مؤقتا على الرائحة الكريهة لحكم التحريض والعصبيات الطائفية والمذهبية.

ويستطيع المراقب الجزم أن كل مربع من المربعات الأمنية السائدة في بيروت الكبرى تعطّل الحركة الاقتصادية وتصيبها بأضرار مضاعفة على مدار الساعة لا يقارن بها أي “ضرر” من الحراك.

يجب أن يرفع الحراك في تظاهراته اللاحقة شعار: “استثمروا في بيروت” لأن هؤلاء الشباب، العاجزين عن التغيير السياسي، أعطوا لبيروت النكهة التوحيدية والسلمية التي أعطاها الشباب الفرنسيون لشوارع باريس عام 1968 ولا تزال أحد مصادر الجاذبية السياحية لتلك المدينة، الجاذبية التي يصنعها عادة الإرث الاحتجاجي التحديثي والثقافي. لا أعرف من يملك مقهى “لي دو ماغو” و”دو فلور” على بولفار سان جيرمان ولكني أعرف أن الزائر المودرن لباريس لا تكتمل زيارته إذا لم يزر هذين المقهيين المتجاورين اللذين ارتبطا بأسماء مثقفين باريسيين كبار حرّضوا على أحداث 1968 رغم بعض العنف الذي سادها والذي لا يُقارن بألاعيب بريئة لعنف الحراك المدني في بيروت مع أن العنف الأكثر شراسة وفضائحية ضد قوى الأمن في ساحة رياض الصلح قام به أزلام مكشوفون ومستورون لبعض القوى المسيطرة. كذلك لن تكتمل زيارة اسطنبول بعد صيف 2013 من دون السؤال عمّا تركَتْه تظاهرات ساحة تقسيم التي انخرطت فيها ولا تزال حين تتجدّد طليعة المدينة الشبابية والثقافية والفكرية. لقد أظهرت تلك الاحتجاجات أسماء روائيين ومخرجين سينمائيين وكتاب وصحافيين مدافعةً ضد عنف قرار رجب طيب أردوغان بقمعها لأنه قرأ فيها، وهو محقٌّ في قراءته، تهديداً لحاضره ومستقبله السياسي. وهذا معطىً أصبح مؤكدا.

الفكرة الجوهرية هنا هي أن الحراك بعنفه هو لحظة سلمية حداثية وتوحيدية وهو أجمل بكثير من أن يُسمَح له بأن يكون دائماً. عنف السلام المدني المتأجّج حتى اليأس ضد سلام الحكم القائم على التحريض الطائفي والتهديد الدائم بالحرب الأهلية.

إذا كان من خطر أمني فما يأتي به هو ارتباطات وسياسات القوى المسيطرة وليس الحراك. مع أن الستاتيكو الإقليمي والدولي على لبنان مستمر وبالتالي لا خطر إقليميٌ حتى إشعار آخر على السلام.

تذكير بالكذبة الأمنية الأقدم:

أجّلت القوى السياسية اللبنانية الرئيسية الانتخابات النيابية التي كانت ستفوز بها مرّتين في السنوات الأخيرة فمدّدت لنفسها مع أنه كان بإمكانها أن تمدِّد لنفسها عبر صناديق الاقتراع. لا شك بذلك.

كانت الكذبة الكبرى التي برّرت بواسطتها القوى السياسية لنفسها قرار التمديد من دون انتخابات هي الوضع الأمني. هذه هي الكذبة القديمة وهي كذبة مكشوفة فرضتها هذه القوى. لماذا تمدِّد لنفسها إذن قوى تستطيع أن تفوز بأي انتخابات قانونية؟

لم يكن من تفسيرٍ سوى عدم رغبة زعماء هذه القوى ومراجعهم الخارجية في التورّط في إنفاق ماليٍّ ضخم لضمان السيطرة فضلا عن مشاكل ترتيب أشخاص البيت الداخلي في كل مجموعة. والإطار الانتخابي الوحيد الذي كان من الممكن أن يحمل مفاجآتٍ كبيرة هو فقط في الدوائر المسيحية.

أين كان لا يمكن إجراء الانتخابات في لبنان؟ في كل الأمكنة كان يمكن القيام بها حتى في عرسال. لا منطقة في الجنوب والجبل والشمال والبقاع وبيروت لا تستطيع استقبال انتخابات أمس واليوم. كلها تستطيع وبلا استثناء. سيفوزون فيها شعبيا بالحسنى أو جزئياً بالقوة.

“استثمروا في بيروت”.