IMLebanon

جنبلاط يتخطّى كل “تابو” ويكسر “شيطنة” الموتو

 

 

حتى لا تكون “زوزو قِبّا” تعلّم قيادة الدراجة على الأصول

 

في لبنان يشكل “لواء الموستيك”واحداً من أفعل الألوية وأنشطها على الأرض، هو حاضر في كل مفاصل الحياة الوطنية وجاهز دوماً للتدخل متى تمّ استدعاؤه. لكن للواء المذكور نظائر يتيمة ليس لها أب ولا زعيم، “موتويات” لا تنتمي إلا الى أصحابها، تعشق الطرقات والرحلات وتهوى السرعة والبهلوانيات. دراجات نارية تسير على طرقات لبنان، بأدب مرة وتفلّت مرات لا تحصى، نتخاصم معها او ننبهر بها لكنها لا تمر ابداً من دون أن نلاحظها.

 

قرب “الفوروم دو بيروت” تراه يجول بدراجته الخضراء في موقف السيارات الواسع الذي هجرته هذه الأخيرة بعد أن توقفت كل حركة في المرفق الترفيهي. جولات الدراجة التي لا تتوقف ذهاباً واياباً في المكان استوقفتنا، أردنا الاستقصاء عن سبب وجودها وسائقها هنا. إنه سليم جنبلاط، رجل مميز يتحدث بلكنة فرنسية واضحة، ويعلّم الناس قيادة الدراجات النارية. يصرّ على انه معلم خاص، مجاز من ألمانيا من شركة BMW تحديداً والوحيد الذي يحمل شهادة لتعليم قيادة الدراجات وتدريب المعلمين، ليتمكنوا بدورهم من اداء هذه المهمة الدقيقة. مجتمع الدراجات النارية يعرفه بالإسم أو من خلال مدرسته Lebanese Motorcycle School التي باتت تشكل علامة فارقة على تقاطع الطرق ذاك تحت “الفوروم”.

 

أهوال على الطرقات

 

تعليم قيادة الدراجة مهمة دقيقة بلا شك لأنها تطال مركبة تضع حياة صاحبها وحياة الناس على الطرقات في خطر ما لم يتمّ اتقان مبادئ قيادتها على الأصول. سليم الذي يقود دراجة نارية منذ 35 سنة، قضى معظمها في فرنسا، صُدم بما رآه على الطرقات اللبنانية من “مصائب”: حفر وزفت سيئ ومخالفات على أنواعها، فلا إضاءة، ولا تصريف للمياه ناهيك عن غياب الخطوط المخصصة للدراجات وتلاشي الخطوط الواضحة للسيارات. وصدم أكثر بالسائقين واسلوبهم في القيادة الذي يفتقرالى الأخلاق وكأنهم وحدهم على الطرقات، يتلهّون بأمور كثيرة اثناء القيادة ولا يتنبهون للدراجات التي تشاركهم الطريق. وفوق كل هذا لا مراقبة جدية من الدولة ولا تشدد في تطبيق قانون السير وفرض الغرامات على المخالفين. وحتى لا يكون اللوم كما دائماً على الآخرين فقط، تنبّه سليم الى حالة سائقي الدراجات النارية التي تكاد تكون كارثية، فمعظمهم او 99% منهم يجهلون أصول قيادة الدراجة وقواعدها، تعلموها بالفطرة بطريقة عشوائية وحصلوا على رخصتهم بطريقة مضحكة.

 

الحرية

 

ويبدو ان الدولة آخر همها سلامة مواطنيها وامتحانها مجرد “رفع عتب” لتسهيل حصول الفرد على رخصته بغية سيسرة أموره الحياتية. في باحة الامتحان لا شيء يعد سائق الدراجة للقيادة على الطرقات، وما تعلمه بجهد شخصي او عبر مكاتب تعليم قيادة السيارات، ما هو إلا بضع خطوات بديهية تعده للنجاح في الامتحان وعبور المسار القصير جيئةً وذهاباً، والتلوي بمهارة بين المخروطيات البرتقالية الفاقعة، لكنها لا تدربه على ما ينتظره من اهوال على الطرقات.

 

 

التأكد من كل التفاصيل

 

نسأل سليم هل كل فئات الدراجات تخضع لامتحان وتحتاج الى رخصة قيادة؟ بالطبع يجيبنا، حتى اصغرها. ولكن نتساءل هنا هل كل هذا الكم من “الموتسيكات” التي نراها “تنغل” في شوارعنا والأزقة، خضع اصحابها لامتحان رسمي نظري وتطبيقي وحازوا على الرخصة؟ الجواب يتضح أمامنا حين نرى أعداد هؤلاء وجنسياتهم المختلفة وأعمارهم الصغيرة، ونتأكد أنهم فالتون على الطرقات من دون حسيب او رقيب يتسببون لأنفسهم وللمارة والسائقين بحوادث لا تحصى، في حين ان قيادة الدراجة فن يعتمد على منهجية مدروسة وتقنية مكتسبة تتيح للسائق القيادة وسط اصعب الظروف.

 

 

إرشادات نظرية

 

لا لشيطنة “الموتو”

 

ما رآه سليم على الطرقات دفعه للعمل على تعليم قيادة الدراجة بشكل محترف لمن يرغب. نسأله من هم الأشخاص المخولون قيادة الدراجة النارية؟ وهل يجب ان يتمتعوا بمواصفات بدنية او ذهنية معينة؟ كل شخص لا مشكلة لديه في التوازن وسبق له أن تعلم سواقة دراجة هوائية يمكن ان يقود “موتو”، يقول سليم، بدءاً من سن الثانية عشرة إذا وافق الأهل وصولاً الى ما فوق السبعين، إذا كان لا يزال في حالة جسدية جيدة. رجالاً ونساءً لا فرق، حتى أن النساء بتنَ أكثرية أخيراً وكأن ذاك “التابو” القديم حول شيطنة الموتو أو “زعرنتها” قد انكسر وبات التلاميذ من كل الفئات، حتى تلك التي كانت تخشى مقاربة المموضوع سابقاً وترى فيه عيباً لا يليق بها، والأعداد إلى ازدياد. والمدهش في الأمر ان بعض من يقصدون سليم طالبين دروساً يقودون الدراجات منذ فترة طويلة، لكنهم يأتون إليه لتحسين مهاراتهم في القيادة وتعلم بعض القواعد والتقنيات الدقيقة التي يجهلونها، وهؤلاء هم الأصعب، إذ يجب أن ينسوا ما تعلموه سابقاً ليتعلموا القيادة على اصولها من جديد. أما التلامذة الذين يفضّلهم فهم الذين يخافون بعض الشيء لأنهم غالباً ما يكونون أكثر حذراً في القيادة من سواهم، أما اصحاب الثقة الزائدة في النفس فيعتبرون الأخطر لأنهم يتوقون الى اختبار حدودهم وتخطي حدود السرعة على الطرقات، في ظل غياب للحلبات المتخصصة التي تتيح لهم تفجير مواهبهم في القيادة.

 

درّاجون من نوع آخر

 

في باحة الموقف حيث يعلّم سليم رأينا اشخاصاً ما كنا نتخيل رؤيتهم هنا، لا يشبهون الصورة النمطية التي ارتسمت في بالنا عن سائقي الدراجات النارية. لا يرتدون السترات الجلدية السوداء ولا تملأ الوشوم أجسادهم. ضحكوا كثيراً حين سألناهم عن هذه الصورة وأجاب أحدهم أنها ربما تختص ببعض المجموعات مثل سائقي دراجات الـ”هارلي دافيدسون”، لكن بشكل عام، الدرّاجون اشخاص أرادوا وسيلة تنقّل سريعة عملية وسط عجقة بيروت. ويقول ريشار جون المتواجد في الباحة إنه اختار الموتو لأنها أرحم من السيارة وأوفر وكلفة تصليحها أقل، وتصل الى أماكن لا تصلها السيارة وإن كانت قيادتها اصعب، نظرراً للمخاطر المرافقة المتأتية من سائقي السيارات وحالة الطرق وظروف القيادة في الهواء والشمس والمطر. ولكنها فوق كل شيء شغف يعيشه صاحبها بحماس ومتعة. أما هشام مكرزل الدراج الهادئ الرصين، فلا يستخدم دراجته الكبيرة كوسيلة للتنقل في بيروت بل يخصصها للرحلات السياحية والترفيهية على طرقات لبنان ضمن مجموعات منظمة، وهذا الأمر يمنحه شعوراً بالرضى والمتعة لا يوصف. ورغم تمرسه بالقيادة يأتي الى سليم لتحسين مهاراته والتعرف الى تفاصيل تقنية يجهلها لأن شعاره هو: حين نثق بدراجتنا نصبح سائقين افضل.

كل وسائل الحماية

 

لكن على الرغم من نقاوة الصورة المقدمة من هؤلاء الدراجين لا تزال صورة”زوزو قبّا” حاضرة بقوة على الطرقات، بدءاً من سائقي “الموستيكات” الصغيرة الذين يحتلون الشوارع والأزقة ويسيرون مع السير وعكسه، وصولاً الى مجانين السرعة الذين يتسللون بين السيارات بهدير مخيف ويقومون بالبهلوانيات ملقين الذعر في نفوس المارين، وما بينهم من سائقين يحولون دراجاتهم الى باصات تحمل العائلة وصغارها أو شاحنات تحمل ما تيسر من “عفش ونفش”.

 

السلامة أولاً

 

تجنّباً لهذه الصور النافرة وضع سليم جنبلاط منهجاً واضحاً لتعليم قيادة الدراجة النارية. يبدأ برنامجه بالدروس النظرية حتى يتآلف المتمرن مع الدراجة وتليه المرحلة التطبيقية الذي يتم فيها تعليمه “التقليعة”، التوقّف، تغيير السرعة، استعمال الفرامل ولا سيما فرملة الطوارئ، الالتفاف او”التكويعة”، القيادة البطيئة في زحمة السير، وكذلك اساليب الهروب من الخطر والمحافظة على مسافة آمنة مع السيارات وحول الدراجة من دون إزعاج الآخرين. الأمر إذاً ليس بديهياً ولا يكفي ركوب الدراجة وقيادتها حتى يصبح المرء سائقاً، بل يجب أن يتدرّب على التعامل مع السيارات على الطريق إذ انه لا يقود في حلبة مقفلة يمكن ان يترك فيها العنان لنفسه ومركبته، بل وسط الناس والسيارات وعليه ان يتدرب كيف يتنبه لها ويجعلها تتنبه الى وجوده.

كثيرة هي التقنيات التي يتم تدريب التلميذ عليها وهدفها كلها السلامة. الملابس ومعدات الحماية هي أول ما يجب أن يتعلمه، فلا يمكن قيادة الدراجة بلا خوذة وهذه يجب ان تكون مثبتة ومقفلة، كما يستحسن ارتداء ألوان فوسفورية او فاتحة للفت النظر أما ارتداء الأسود فخطأ شائع وخطر. كذلك يتم تدريبه على اتخاذ القرارات الصائبة التي تحميه ولا تؤثر سلباً على الآخرين، وعلى القيام بردة فعل سريعة بالنسبة للفرملة او الهروب تبعاً للسرعة التي يعتمدها. وعلى المدرب ان يمرّن تلميذه على السير وسط خط معين او التسلل بين السيارات عند الحاجة، مع الحرص على اتخاذ الوضعية التي يكون فيها ضمن مجال رؤية سائق السيارة حتى يتمكن من رؤيته والتنبه له، اضافة الى تلقينه فوارق القيادة بين الليل والنهار. باختصار هو يزود تلامذته بكل ما يعدهم للقيادة في محيط هو من بين الأصعب في العالم.

 

البرنامج عادة يحتاج الى حوالى 12 ساعة ولكن ذلك يتوقف على مهارة التلميذ ومثابرته. يبدأ التمرين على دراجة صغيرة نسبياً أما من أراد أن يكمل المشوار واقتناء دراجة كبيرة فعليه ان يحسن مهاراته حتى يتمكن من السيطرة عليها، وكلما زاد عدد الأحصنة ازدادت صعوبة قيادة الدراجة. سعر ساعة التعليم كان في السابق 65$ أما اليوم فقد جعله سليم 120000 ليرة لبنانية، نظراً للظروف الضاغطة وبسبب تراجع عدد التلامذة نسبياً عن السنوات السابقة. لكن الصداقة تأتي قبل المال عند هذا الاستاذ المميز، فجميع الطلاب تحولوا عنده اصدقاء وباتت الباحة نقطة التقاء لكل هواة الدراجات النارية.

 

عشق لا يعترف بالعمر

 

جوزيف شار درّاج لا يشبه أي درّاج آخر في لبنان، هو حالة خاصة تدير الرؤوس نحوها أينما وجدت. رجل سبعيني مميز في مظهره ومقاربته للحياة. ففي حين كل شيء ينحدر نزولاً في لبنان هو النقطة التي تعاكس التيار وتصعد نحو الاعلى. يرفض الاستسلام لمتطلبات العمر ويعشق الحياة. كان في الـ67 من عمره حين أراد تعلم قيادة الدراجة النارية، لم يثنه عنها شيء لا نظرات الناس أو المركز الوظيفي أو الإجتماعي. فالرجل الذي أمضى عمره كمصرفي وجد بعد التقاعد الفرصة سانحة لتحقيق حلم كان يراوده منذ الشباب.

 

السلامة أولاً

 

فهو الذي أحبّ قيادة «البيسيكليت» وبهلوانياتها منذ الصغر، كان ينظر الى الدراجات النارية بانبهار واعجاب ويرى أنه لا بد أن يأتي يوم يتعلم فيه قيادتها. وتأخر مجيء هذا اليوم لكنه حل أخيراً حاملاً معه تصميماً وشغفاً لا يوصفان. بحث عبر الانترنت فوجد سليم وهنا بدأت الرحلة، لم تكن صعبة إذ على الفور وجد نفسه بانسجام تام مع دراجته، لكنه أراد أن يأخذ وقته بلا تسرع حتى يلبي توقه الدائم الى الكمال ويكون قادراً على الانطلاق بثقة على الطرقات. حلمه اليوم السفر الى الولايات المتحدة ليقود وسط الدراجين المحترفين الطريق 66 الشهير، وفرحته أن يثير الدهشة حين يتنقل على طرقات لبنان ولذته الدائمة ذلك الشعور العارم بالحرية الذي تمنحه إياه قيادة الدراجة. أحلامه لا تزال كثيرة لكن لبنان قاتل للأحلام على ما يبدو بين شيبه وشبابه.