يوم كان الحراك المدني في وسط العاصمة يجذب الناس الى التجمع عند كل نداء، اعتراضاً في الشكل على أزمة النفايات التي تحتلّ شوارعهم، وتمرّداً في المضمون على كل شيء له صلة بالطبقة السياسية، كان وليد جنبلاط أول مَن يحذّر من إفلاس معظم الأحزاب السياسية التي صارت «قياداتها وخطاباتها فارغة»… ولكن ما مِن يسمع.
وعشية الانتخابات البلدية، التي اتُهم بأنه يميل الى تأجيلها، عاد رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» ونبّه الى حالة «الخواء» التي تصيب التنظيمات الحزبية، تلك العتيقة منها وتلك الخارجة من رحم الشباب، بعدما استثنى بطبيعة الحال «حزب الله» من هذا المصير السوداوي.
فعلاً، أصاب الرجل في قراءة المزاج الشعبي، والتقط سريعاً متغيّرات الجمهور المصاب بالإحباط جراء فشل مكونات السلطة على مدى عقود في تقديم نماذج فاعلة توقف حالة الاهتراء والانهيار التي تصيب الدولة. وإذ بصناديق الاقتراع تقول ما ترفض القوى السياسية الإقرار به.
في بيروت، قد لا يجد سعد الحريري من فريقه السياسي مَن يُطلعه على جدية التراجع الدراماتيكي الذي يصيب تياره وحضوره ونفوذه… ولكن ستكفيه قراءة أرقام تصويت البيارتة ليتأكد أن زعامته تواجه مأزقاً وجودياً، وبأن جمهوره ملّ الشعارات السياسية التي لا تطعم خبزاً ولا توقف مزاريب الهدر ولا تؤمّن قسطاً مدرسياً لأطفاله، وها هو يبحث عن مشروع بديل يعبّر عنه.
وبمعزل عن المشروع الإنمائي الذي تقدمه لائحة «بيروت مدينتي»، فإنّ تمكّن رئيسها ابراهيم منيمنة من الحصول على 31933 صوتاً مقابل 45874 لجمال عيتاني (حتى أن الفارق بين آخر الرابحين وأول الخاسرين لا يتعدى السبعة الآف صوت)، يعني أمراً واحداً: الرأي العام البيروتي، الذي هو جزء معبّر من الرأي العام اللبناني، متعطّش للتغيير.
بنظر كُثر، فإنّ ما حققته «مدينتي» هو تعبير عن حالة رفض الواقع، والذي يصنّف بالسياسة بالتصويت السلبي، أي الاعتراضي، والذي يفترض بالأحزاب جميعها أن تأخذه على محمل الجدّ لتفكر في كيفية إخراج نفسها من عنق الإفلاس الذي بدأ يصيبها.
وقد تكون الأحزاب المسيحية معنية أكثر من غيرها بالحاجة الى هذه المراجعة، في ضوء ما كانت تريده من الاسحقاق البلدي واعتقدت أنّ بإمكانها تحقيقه واستثماره بالسياسة، وها هي اليوم تخرج من محطة الانتخابات الأولى «مستحية» بالنتائج التي حققتها، حتى لو قالت عكس ذلك، بعدما تمكّنت مجتمعة من اكتساح مجلس بلدية «عاصمة الكثلكة».. ولكن لهذا «النصر» أيضاً فلسفته التي تستدعي عدم تصنيفه بـ «الإنجاز».
ولعل رهان الثنائي المسيحي، أي «التيار الوطني الحر» و «القوات اللبنانية»، على تقريش نتائج الانتخابات البلدية في الاستحقاق الرئاسي، هو الذي يدفع بمعارضيهم الى مواجهتهم بمنطق الأرقام ذاته، وذلك لدحض «مقولة الـ86%» التي حاول «المتحالفان الجديدان» إسقاطها على البلديات لتثبيت نظريتهما بأنها يمثلان الأغلبية الساحقة من الشارع المسيحي. ولتكون لهما وحدهما الكلمة الفصل في مصير كرسي بعبدا.
هكذا، صار يُنظر الى صناديق زحلة ليس بكونها منحت تحالف الأحزاب فوزاً نظيفاً بوجه العائلات التقليدية، بل لعدم قدرة الثلاثي الحزبي على «إغلاق» البيوتات السياسية وتحقيق الانتصار الكبير.
ترقّب معارضو هذه القوى جردة الأرقام التي أظهرتها صناديق الاقتراع ليحاججوهم باللغة نفسها: لا يكفي أن تحصل لائحة الأحزاب على أكثر من عشرة آلاف صوت زحلي كي تثبت أنّ عاصمة الكثلثكة لها، لأنّ النتائج بيّنت أنّ ثمة قوتين مقابلتين تمثلان مجتمعتين أكثر من خمسة عشر ألف صوت.. وهنا كل الفرق.
يقول هؤلاء إنّه بناء على هذه المعادلة التي تجعل من الأحزاب الثلاثة لا تمثل أكثر من 40% من أصوات الزحليين، فقد سقطت «مقولة الـ86%»، والتي ستنعكس حكماً على بقية المعارك الانتخابية المنتظرة، لا سيما في جونية.
بالنسبة لهؤلاء لم يُفهَم التحالف المسيحي الا بوظيفة واحدة، وهي قطع الطريق أمام سليمان فرنجية، لأنّ هذا التحالف حتى اليوم لم يحمل الى «التيار» أي قيمة اضافية، الا اذا اعتُبر مقعدا العاصمة هدية قيّمة، أو أنّ اخراج آل سكاف من المجلس البلدي هو الإنجاز.
لهذا يعتقدون أنّه سيكون صعباً على الأحزاب المسيحية تجيير انتصارها الزحلي في معركة جونية التي يتداخل فيها العائلي مع السياسي، لكن المقاربة ذاتها قد تحصل مثلاً في بلدة غوسطا الكسروانية، حيث تواجه الأحزاب اللائحة المدعومة من فريد هيكل الخازن، وكأن المطلوب وفق هذه اللائحة، إقفال البيوتات السياسية التقليدية لمصلحة المقار الحزبية.
ويقولون إنّ معركة جونية هي معركة أحجام ونفوذ يُراد ترسيم حدودها قبل الانتخابات النيابية ولهذا تخطت أصداؤها نفق نهر الكلب وصارت ساحة مواجهة تلتقي على أرضها كل القوى المسيحية. هكذا أيضاً يبدو أنّ التحالف العوني – القواتي سيقف على أبواب المدينة، لأنّ حسابات الفريقين اختلفت.
ويقولون إنّ تصوير التفاهم الثنائي بأنه يختصر المشهد المسيحي، هو تحوير للواقع كشفته معركتا زحلة وبيروت بعدما تبيّن أنّ «التيار الوطني الحر» و «القوات» لهما وزنهما على الأرض، لكنهما عاجزان عن إلغاء الآخرين.. أو احتكار مفتاح أي مدينة.
صحيح أنّ للأحزاب امتداداتها على كامل الخريطة اللبنانية ما يجعل منها لاعباً مؤثراً في الاستحقاقات الدستورية منها البلدية والنيابية، ولكن صحيح أيضاً أنّ هناك بيوتات سياسية لها مكانتها بين ناسها وهي الأكثر تأثيراً حين تكون اللعبة محلية. حتى أنّ تجربة الانتخابات البلدية أثبتت أنّه لا يمكن حتى للأحزاب أن تغوص في عمق البلديات إذا لم تطرق أبواب العائلات وتدخل عبرها.