يُدركُ النائب ميشال عون، كما الجميع، أنّ طرحَه الرئاسي المفاجئ لن يقود إلى أيّ مكان. لكنّ ما فعَله يُشبه المباغتة بإضاءة مصباح داخل غرفة مظلِمة تعجُّ بالأسرار… وبالناس، وهو بينهم، فإذا بالجميع عُراة!
يقول قريبون من عون: «لم يُطلِعنا «الجنرال» على نيَّته إطلاقَ طرحٍ رئاسي جديد». وهذا الكلام يُفترَض أنّه صحيح. فلو أراد عون وضعَ طرحِه على طاولةٍ للنقاش تضمّ أكثرَ من 20 شخصاً، لوَصلَ سريعاً إلى حلفائه وخصومِه والذين ما بينهما. ووفقاً لتجارب سابقة، لكانَ الحلفاء تدخَّلوا في شكلٍ طارئ لإقناعه بالتأجيل، لأنّه «سيئ تَكتيّاً».
الذين أُصِيبوا بالإحراج هم حلفاء عون في الدرَجة الأولى، وحلفاءُ حلفائه. فهؤلاء ينامون على لعبةِ التناقض بين عون وجعجع، ويرتاحون إلى استحالة وصول أيّ منهما إلى بعبدا، بسبَب رفض أيّ منهما الانسحابَ للآخر. ويُوحي هؤلاء لعَون بأنّهم يقاتلون لإيصاله إلى القصر، لكنّ المشكلة في عدم انسحاب جعجع. وهذه الحجّة ربّما يتظاهر عون بتصديقِها… من باب الواجب!
لكنّ طرحَ عون -المواجهةٍ الرئاسية المحصورة بالثنائي المسيحي في المجلس النيابي- لقيَ ترحيباً من خصمِه جعجع. وقد يكون الترحيبُ حقيقياً أو للمناورة. لكنّ الآخرين بلا استثناء، في كلّ المعسكرات المسيحية وغير المسيحية، يرفضونه، كلٌّ من منطلقاته.
فجميعُ الموارنة الآخرين، المرشّحين علناً أو بـ»السرّ»، يرفضون الطرحَ، إمّا حبّاً بالديموقراطية وإمّا حبّاً ببعبدا وإمّا بهما معاً. ولذلك، لن يتيحَ أيّ منهم لجعجع وعون أن يستفردا بالمواجهة في المجلس. وسيلقى هؤلاء تشجيعَ السُنّة والشيعة أيضاً… من تحت الطاولة.
وطبعاً، النائب وليد جنبلاط لن يسحبَ مرشّحَه النائب هنري حلو، مراعاةً للديموقراطية، عِلماً أنّ بين جنبلاط والديموقراطية «زواج عقل»، لا «غراماً وانتقاماً».
في الدرجة الأولى، يَطمئنُّ حلفاء عون إلى أنّ الموارنة سيتكفّلون بتعطيل طرحِه. وإلّا فإنّ جنبلاط جاهزٌ بمرشّحه. والأرجح، لن يضطرّ الحلفاء إلى إلقاءِ إسم مرشّح جديد للتعطيل، من خارج المتداوَل، فالموجود يكفي.
أمّا في المقلب الآخر، فنَجحَ الطرح أيضاً في إحراج حلفاء جعجع تجاهَه. فهؤلاء أيضاً لا يريدون إيصالَ أيّ من قطبَي «الثنائية المسيحية» إلى القصر، وهم يرتاحون إلى لعبة التعطيل المتبادَلة، أي إلى التقاطع الموضوعي في المصالح، بينهم وبين «حزب الله» و«أمل»، ومعهم جنبلاط.
والواضح أن لا رئيس قريباً للجمهورية.
أمّا إذا نضجَت الطبخة بين القوى المذهبية على الرئيس الماروني، فهي ستنضج على إسمٍ من خارج النادي السياسي المعروف. ولعلّ أعضاءَ هذا النادي جميعاً يدركون ذلك، لكنّهم لا يَكفّون عن المجاهرة بطموحاتهم… لعلّ وعسى!
أمّا صناعة الرئيس اللبناني، في ظلّ التنافر المسيحي، فهي ستبقى مسألةَ توافق إقليمي- دولي، وتوافق مذهبي، لا مكان فيه لبطولات يدّعيها الزعماء المسيحيون.
لكنّ ما يكشفه عون جوهرياً، وفي شكل فاضح، هو عُقم «الثنائية المسيحية». فهي باتت مادّةً يستخدمها الحلفاء هنا وهناك لتعطيل الدور المسيحي في الحُكم والحياة السياسية. وقبل أيام، قال عون إنّ قادة الموارنة لطالما كانوا، منذ الاستقلال، مقسومين في ثنائيات سياسية، وأبرزُها ثنائية الكتلتين الوطنية والدستورية.
لكنّ الطريقة التي وُوجِه بها طرحُ عون الرئاسي، تكشفُ الاختلاف الجوهري بين الثنائية المسيحية الحاليّة وتلك الثنائيات البائدة. ففي زمن الاستقلال، وبَعده لسنوات، كان البلد كلّه ينضوي تحت لواء القطبية الثنائية المسيحية. وكانت البيوتات الشيعية والسنّية والدرزية هي المقسومة سياسياً بين القطبَين المسيحيين داخل الثنائية.
أمّا اليوم فالمسيحيون هم المقسَّمون على الثنائيات الأخرى. وهذا اختلافٌ جوهريّ يجدر أن يفكِّر فيه عميقاً زعماءُ المسيحيين، بدل الاختباء وراءَ الأصابع. فمصباح عون في الغرفة المظلمة كشفَ الجميعَ، وهو بينهم، على طريقة «عَليَّ وعلى أعدائي يا ربّ»!
فهل يَقرأ زعماءُ المسيحيين هذا الدرسَ جيّداً، أم يحتاجون إلى دروس أخرى ليصدِّقوا؟