Site icon IMLebanon

شرعة للحوار تتجاوز ثنائية التشنّج.. أو الجمود

تمادي الفراغ الرئاسي هو تمادي فراغين في وقت واحد. واحد «دستوري» والثاني «غير دستوري». دستوري لأن الشغور في المنصب الأوّل يستتبع مع ذلك آليات استمرارية ومواظبة في السلطة التنفيذية وفقاً لأحكام الدستور. وغير دستوريّ لأنّ عدم تأمين جلسة انتخاب للرئيس العتيد منذ ثلاثمئة يوم هو عمل يتناقض مع ألفباء القانون الدستوري، سيما وأنّ ليس هناك ما يمنع المجلس بالسواد الأعظم لأعضائه من الانعقاد، فلا متاريس أو جبهات تشطر العاصمة كما في أعوام الحرب، وانّما سلم أهلي لم يؤثر فيه الشغور الرئاسي سلباً، بل انه تحسّن نسبياً في مناطق وان اختلّ نوعاً ما في أخرى. الفراغ دستوري من حيث ان الدستور يشرح ما الذي ينبغي عمله في حال عدم وجود رئيس، وهو غير دستوري من حيث ان الدستور لا يمكن ان يبرّر لوضعية مجلس نواب يمكن أن يجتمع في وقفة تضامنية مرة وللتمديد لنفسه مرة دون أن يكون بامكانه انتخاب رئيس، كما انّ هذه الوضعية تعطّل شرعية عمل السلطة التشريعية نفسها حيث ان المجلس مناط به تأجيل كل شيء وانتخاب رئيس أولاً، وهو ما لم يحدث.

بيد انّ المخرج من هذه المعضلة، ومن هذه الازدواجية الدستورية واللادستورية للفراغ الرئاسي لا يمكن أن يكون في الوضع الحالي لا بالاحتكام الى المؤسسات، حيث ان التوازنات القائمة داخل البرلمان تطير النصاب فيه وقوة الامر الواقع خارجه تمنع التفكير بتوجه النواب لانتخاب رئيس بأكثرية النصف زائد واحد أو بمن حضر، ولا واقعية لأي حلول «مجازفاتية» من هذا النوع. كما انّه، وفي ظل انسداد الأفق أمام الاتفاق على قانون انتخابي، وانفجار الأزمة المزمنة، أزمة «البحث عن قانون يرضي جميع الأطراف»، لم يعد ممكناً التفكير في حل أزمة الشغور الرئاسي بدءاً من تجديد السلطة التشريعية نفسها بالاقتراع العام. وهذا في الحقيقة هو عمق أزمة الشغور الحالية: الطريق الى المنصب الأول في الدولة مسدود حتى اشعار آخر، والطريق الى الاحتكام الى الاقتراع العام لاختيار مجلس نيابي جديد مسدود حتى اشعار آخر. بين الاثنين تتابع حكومة عملها، وعليها ان تكون في الوقت نفسه بمثابة برلمان مصغر، حين انها حكومة ائتلافية يشارك فيها الجميع باستثناء حزب «القوات».

هذا الانسداد المزدوج هو الذي يحتّم اللجوء الى الحوار، والى اكثر من «جبهة حوارية» في الوقت نفسه. هناك حوار مسيحي – مسيحي، عقدة الانقسام فيه سياسية، وحوار اسلامي – اسلامي، يتقاطع مع قسمة مذهبية مضاعفة ايديولوجياً. في الوقت نفسه، صعوبة هذا الحوار تأتي من كون الحاجة اليه هي انسداد الطريق الى انتخاب رئيس، والى انسداد الطريق الى الاحتكام للاقتراع العام. علاج الانسداد الثاني كان تمديد المجلس لنفسه مرتين حتى الآن، وهذا ليس بعلاج، فهو يفاقم الداء، لكنه على الاقل يبقي على الحضور الشكلي للمؤسسة، اما الانسداد الاول فأخطر، فلا رئيس لا فعلياً ولا شكلياً، وليس هناك خارطة طريق توضح حتى الآن كيفية تجاوز الدوامة التي علق البلد فيها منذ سنة. والأمر يختلف عن الشغور الرئاسي السابق، الذي سبقه نوع من اجماع على توافقية العماد ميشال سليمان واختلاف على كيفية ترجمة ذلك، في حين لا اجماع على توافقية أحد حالياً، ولا اجماع على مبدأ البحث عن رئيس توافقي، وفي الوقت نفسه هناك اشتراط، لا سيما من الاطراف المعطلة لانتخابات الرئاسة، بأن يأتي الرئيس العتيد على مزاجها، ولو أنها في حيرة اذا كان مزاجها يقتضي ان يكون هناك رئيس أو أن يستمرّ الشغور أشهراً اضافية أو أكثر. 

ليس الحوار والوضع بهذا الانسداد وجهة نظر. انه السبيل الوحيد لمحاولة الخروج من الانسداد حالياً، وهو سبيل غير مضمون، وصعب، ويقتضي التعامل مع قنواته كما لو كانت منفصلة عن المحاور الاقليمية، وليس هو الواقع. كل هذا لا يمكن ان يبرّر الطعن في مبدأ الحوار، اذا لا معطى بديلا له. بالتوازي، لا يزال هناك كثير من الابهام والغموض ينبغي اجلاؤه. شرعة الحوار ينبغي ان تسنده، وان تنظمه. 

فهذا الحوار لا يمكن ان يخرج عن الموضوع: انتخابات الرئاسة. واذا خرج لا يمكن ان يحل اي موضوع آخر. بالطبع، ينبغي ان تبحث مسألة الرئاسة كمدخل الى مقاربة أشمل لسائر الملفات، لكن هذه لا يمكن ان تشتت الحوار في ما بينها، تماماً مثلما انه لا يمكن «تعليق» الخلافات طالما استمرّ الحوار، وان كانت تلزم عدم المكابرة، والربط بشكل واقعي وشفاف، بين ايضاح كل طرف الحاجة الوطنية الى هذا الحوار، الى جمهوره اولاً، وبين ايضاح كل طرف لنفسه اولاً بأنّ حتمية الحوار يفرضها الحد الذي وصل اليه الخلاف والتعطيل في البلد، وليست نتيجة عن فائض ميول توافقية ووحدوية وطنية تنتاب سائر الفرقاء. 

الحوار ضروري، لكن تحديده بشكل أوضح، وتحديد ما يستدعيه من المتحاورين، الى يوم الوصول لانتخاب رئيس، هو أيضاً ضروري، وأكثر من ضروري، ويجنّب البلد اضاعة الوقت على نوبات تشنّج لا لزوم لها، من فوق ما يضيّعه عليه الجمود في موضوع الرئاسة.