اللاجئون باتوا ورقة ابتزاز دولية – إقليمية: تركيا تبتزُّ أوروبا. أوروبا تبتزُّ لبنان والأردن. وأوروبا تمتلك الأوراق التي تحميها من الابتزاز أو تخفِّف من وطأته. وأما لبنان والأردن فلا. وفي الأردن شكا الملك عبدالله الثاني للأميركيين أنّ تركيا تستثمر ورقتَي اللاجئين والإرهاب. وأما في لبنان، فليس موجوداً ذاك الذي يجب أن يَرفع الشكوى، وربما يكون مقصوداً عدم وجوده!
عند التسويات، قد يتعرّض الأردن ولبنان لانهيارات كيانية لإجبارهما على القبول بالحلول المطروحةبعد تفجيرات باريس، عقد الأوروبيون مكرَهين صفقة مع تركيا: «أوقِفوا لجوء السوريين وخذوا 3 مليارات يورو»! ولم تكد الدفعات الأولى تصل حتى جاءت عمليات بروكسل. فسارع الأوروبيون إلى صفقة أكبر مع تركيا: 3 مليارات يورو أخرى ووعود بمفاوضات جدّية لتحقيق حلم أنقرة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
إذاً، نكبة اللاجئين السوريين نقمةٌ لهم وللبنان والأردن، لكنّ تركيا حوَّلتها نعمةً لها. وهي تسرِّع الخطى «لتضرب الحديد الأوروبي وهو حامٍ». فالوجع الناتج من ضربات بروكسل وباريس، مشفوعاً بهواجس الأوجاع الآتية، مثاليٌ للأتراك لكي يسددوا ضربتهم.
الأرباح التي تنتظرها تركيا، إضافة إلى المليارات الـ6 المرشحة لزيادة كبيرة، هي الآتية:
– في الأسابيع القليلة المقبلة، موافقةٌ أوروبية على دخول المواطنين الأتراك دول الاتحاد الأوروبي من دون الحاجة إلى تأشيرات.
– سكوتُ الأوروبيين عن التشدُّد التركي في ضرب الأكراد.
– إعادة توحيد قبرص تحت ضغط الخوف الأوروبي من اللاجئين والإرهاب، أي تمرير اتفاق يناسب الأتراك في تكريس نفوذهم، ولو جزئياً، في مستقبل الجزيرة.
– سيقدِّم رجب طيِّب أردوغان لأوروبا إغراءً بأن يكون القوة الأوروبية الأكثر فاعلية في وجه فلاديمير بوتين في البحر الأسوَد.
– نتيجة لهذه المكاسب، سيتمكّن الحزب الحاكم من اكتساب شعبية عالية في وجه منافسيه، خصوصاً بعد الضرب على وتر العداء بين الأتراك والأكراد.
ووفق بعض المتابعين، تعتمد تركيا سياسةً بعضُها مستتر لتخفِّف أعباء اللاجئين عن كاهلها. ففي المطلق، إنّ وجود 2.5 مليون لاجئ سوري على أرضها، في مقابل عدد سكان يفوق 75 مليون نسمة، أي نحو 3%، لا يشكل إرهاقاً ديموغرافياً لها، ولا تهديداً كيانياً، كما هو وضع لبنان والأردن.
وانتماء هؤلاء إلى المذهب السنّي ينسجم تماماً مع البيئة التي يريد أردوغان تدعيمها، في بلد يبلغ فيه العلويون والأكراد أكثر من ربع السكان. ويتحدث قادمون من تركيا عن مدى اندماج أولاد اللاجئين، الذين يتلقّون تعليماً فيها وباتوا يتقنون اللغة التركية. والذين وُلدوا هناك يكادون لا يعرفون العربية.
لذلك، لا يمانع أردوغان في التجاوب مع طروحات للبنك الدولي تتضمن توطين قسم من اللاجئين، مقابل عروض مغرية. وأما القسم الآخر فسيعمل على تثبيته في مناطق آمنة، شمال سوريا، يَعرض الأتراك بناءها وتتسع لمئات الآلاف، على أن تتولّى أوروبا التمويل، مع الإفادة من اليد العاملة السورية الرخيصة، فيما رجال الأعمال الأتراك يستثمرون في مشاريع الإعمار. وخلال مؤتمر لندن للاجئين، في شباط الفائت، طالب رئيس وزراء تركيا أحمد داود أوغلو بـ20 مليار دولار لدعم بلاده في ملف اللجوء.
وأما على المستوى الأمني، فالوضع التركي الداخلي مضبوط إجمالاً. والمخاوف من اهتزازه مصدرها الأكراد لا اللاجئون السوريون الذين يخرقهم الأمن التركي عميقاً.
هذا الجوّ المؤاتي لتركيا في ملف اللاجئين معاكس تماماً لأجواء الاحتقان والنقمة في لبنان والأردن. وهنا يجدر التوقف عند الكلام الخطر الذي نُقِل عن الملك الأردني عبدالله الثاني خلال لقائه أركان الكونغرس، وبينهم جون ماكين، أثناء زيارته لواشنطن في كانون الثاني الفائت، والتي تأجّل فيها لقاؤه مع الرئيس باراك أوباما إلى شباط.
ووفقاً لـ»الغارديان» البريطانية، قال الملك: «إنّ تدفُّق الإرهابيين إلى أوروبا جزءٌ من السياسة التركية، وأنقرة تحاول استغلال أزمة اللاجئين لتحقيق مصالحها… وأردوغان يؤمن بالحلّ الإسلامي الراديكالي ويدعم الجماعات الدينية في سوريا ويسمح للمقاتلين الأجانب بدخولها، وهو استورد نفط «داعش» وساعد مليشيات إسلامية في ليبيا والصومال».
طبعاً، هذا الكلام الأردني الذي تمّ التراجع عنه جزئياً يكشف مدى الانزعاج الأردني من الدور التركي، سواءٌ في الحرب السورية أو في ملف اللاجئين، كما تمّ التراجع عن انتقاداتٍ وجّهها إلى قوى عربية تقوم بالتنسيق مع تركيا.
ويعتقد الأردن أنه متروك لمواجهة مصيرية في ملف اللاجئين السوريين، فيما هو أساساً غارق في مأزق اللجوء الفلسطيني. فسكان الأردن (10 ملايين) نصفهم أو أكثر فلسطينيون مقيمون أو أردنيون من أصول فلسطينية. ويخشى العرشُ الأردني أن تتحقق، في نهاية الأمر، أي عند نضج التسويات، مقولة ديفيد بن غوريون بأن يكون الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين.
وفي الأيام الأخيرة، جاء الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى الأردن ولبنان، ومعه رئيس البنك الدولي ورئيس البنك الإسلامي للتنمية، بهدف تمرير ما يمكن اعتباره «رشوة» لتوطين اللاجئين السوريين والفلسطينيين، ولو واقعياً، في هذين البلدين. فالمهم هو أن يرتاح الأوروبيون منهم.
وكان عبدالله الثاني أعلن أنّ المملكة ستستمرّ بمساعدة اللاجئين السوريين ولكن ليس على حساب مواطنيها. وقال: «لا نستطيع أن نكون مُعاقَبين مقابل قيامنا بأعمال صحيحة». وثمّة مَن يعتقد أنّ مظلة الاستقرار محفوظة للأردن ما دام يتقبّل اللاجئين، وربما يكون عليه في المستقبل أن يتحمَّل جزءاً أساسياً من التسوية الشرق أوسطية، باستقباله أعداداً أخرى من الفلسطينيين وفق سيناريو «الترانسفير» الذي لطالما تمّ التداول به.
وأما لبنان فهو الثاني الذي يهدِّده ملف اللجوء كيانياً. فبلد الـ4.5 ملايين لبناني بات مثقلاً بـ2.5 مليون نازح سوري وفلسطيني، سيمكثون فيه إلى أجل غير مسمّى لأن لا أفق في سوريا لتسويات واضحة، ولا حلول منتظرة للقضية الفلسطينية، وسط إصرار إسرائيل على رفض الاعتراف بحقّ فلسطينيي الشتات في العودة. فالمعطيات الديموغرافية والاقتصادية والأمنية في لبنان تؤشّر إلى ارتفاع منسوب القلق. لكن ما يزيد المخاوف في لبنان هو أنه يعيش انهيار المؤسسات، بدءاً برئاسة الجمهورية، وتعثّر المخارج السياسية والشلل الاقتصادي وتفاقم حجم الدين العام. وهناك بؤر أمنية مقلقة قد تفجّر استقرار البلد في أيّ لحظة. والنازحون السوريون والفلسطينيون يتمّ استغلالهم في البيئة المشبوهة أمنياً (عرسال وعين الحلوة نموذجان).
وفيما يعرض المجتمع الدولي على لبنان «رشوة» للقبول بـ»توطين واقعي» للنازحين، لا يبدو أنّ فيه مرجعية قادرة على القبول أو الرفض. ففي الأردن مثلاً، ليس هناك انقسام عمودي حول ملف اللاجئين. وأما في لبنان فهناك مسؤولون يتهمون آخرين بتعمُّد السكوت عن تفاقم أزمة النزوح أو حتى التواطؤ، وهناك شرخٌ فئوي مكتوم إزاءها.
ولذلك، يبدو لبنان نموذجياً ليتلقّى الحلول المفروضة، وسط الترهل الشامل. فملف النفايات، مثلاً، أظهر أنّ تعذيب اللبنانيين 7 أشهر دفع بهم إلى القبول بالتسوية التي تحضِّرها تركيبة الفساد إياها. وحتى الشباب الناشطون، رافعو شعارات مكافحة الفساد، سكتوا وعادوا إلى منازلهم قانعين!
فهل إنّ تعذيب اللبنانيين، لسنوات طويلة، سيقودهم إلى الاستسلام للحلول التي يجرى تحضيرها داخل الغرف السوداء، في ليل الشرق الأوسط الذي يتعرض لزلزال ينسفه، وقد يُعيد تأسيسه أو لا يُعيد؟