IMLebanon

سيرة جعجع تحاكم زمن الحرب الأهلية

تصلح كتب السيرة نقاط ارتكاز بين العام والخاص حين يكون وضع النقاط والفواصل بينهما ممكنا، وربما نوافذ يطل اصحابها من خلالها على العالم ويطل العالم منها عليهم، بحثا عن تفاصيل تزيل لبسا علق بمراحل تداخلت فيها الاحداث وكثر اللاعبون، ولا يخلو الامر من ان تصير مرايا لجدل لا ينتهي، حين تتعدد روايات المراحل، وتخضع زوايا قراءاتها لأمزجة الفرقاء، كما هو حال الحروب اللبنانية وتداعياتها الممتدة لعقود، تلقي حملها على اللحظة الراهنة، وتخيم ظلالها على مستقبل يفتقر للوضوح، في منطقة اقرب الى كثبان رملية، في مهب الريح.

تكاد رواية ندى عنيد لسيرة قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، ان تجمع كل هذه الجوانب، ففي كتابها محاولة للانغماس، في عوالم لاعب سياسي مثير للجدل، واعادة ترتيب مشهد مضطرب، من خلال رؤيته، وتفاعلاته مع تفاصيل، لا تترك مجالا للحياد. 

لا تكتمل سيرة «الحكيم« كما يسميه انصاره تحببا، من دون حضور الدور السوري، في الحياة اليومية اللبنانية، فهو محرك خصومات وتوافقات الفرقاء، الذي لا يكتفي بمجرد التأثير في العلاقات البينية، حين تحول الظروف، دون الامساك بأطراف خيوط اللعبة، حيث تلتقط كاتبة السيرة، علاقة ما بين «الفساد« و«القمع« تسهل السيطرة على الطبقة السياسية اللبنانية. 

وفي سبيل سيطرته، على تطورات الاوضاع اللبنانية، يلتقي النظام السوري مع الولايات المتحدة، في علاقة تخادم، ويصطدم مع اطراف عربية واقليمية، حين تتعارض سياساتها مع دوره في لبنان، دون ان يكف عن ترديد شعاراته القومية.

تبدلات الحضور السوري، والتقاء تشعبات الازمات اللبنانية عنده، تطلبت عرضا نظريا، والتقاط بعض الظواهر، التي يختفي عمقها، وراء سرد السيرة، لعذابات وموت لبنانيين، رافقت «جعجع« من حي «المجادلة« الشعبي، حيث ولد لعائلة مسيحية، وصولا الى محاولة اغتياله في معراب، مرورا بتجربة السجن في زنازين وزارة الدفاع، وصخب الصراعات التي رافقت مسيرته.

ابراز البعد النظري للحضور السوري، اقتضى من عنيد مقاربات، طفت على سطحها قضايا المواطنة والاقليات، وكيفية حلها، الذي يترتب عليه قيام دولة القانون، حيث يرى «سمير قصير« الذي ذهب ضحية، معاندته ثقل ذلك الحضور ان «ربيع العرب حين يزهر في بيروت انما يعلن اوان الورد في دمشق« ويقدم جعجع نقدا لاعتقاد مفترض بان «المسيحيين في سوريا جاؤوا مع حافظ الاسد وعليهم ان يرحلوا عنها حكما مع ابنه بشار« فيما يرى تحالف 14 اذار، الذي ينتمي اليه قائد القوات اللبنانية، في المسيحي شريكا، لا يمكن ان يكون جزء من المجتمع، ويبقى على هامشه، او يتحول الى كيس رمل، يحمي الدكتاتوريات من ثورات الشعوب.

بذلك يفوق خطر افرازات الازمة السورية في لبنان، قضايا اللاجئين والاقتصاد، التي يرتكز عليها سجال اطراف الازمة اللبنانية، الى ما هو اعمق من ذلك بكثير، فهو يمس جوهر فهم التعايش بين الطوائف والمكونات الديموغرافية في المنطقة، الامر الذي ينعكس بشكل تلقائي على لبنان، لخصوصية تركيبته الديموغرافية، حيث يرى قائد القوات اللبنانية «ان منطق الاقليات، يدفع الى تحالف اقليات باطل، يضع مسيحيي الشرق، في موضع رضوخ واذعان، شبيه بوضع الذمية، ويقترن بسلوك دفاعي، يقود الى الانعزالية، والانطواء على النفس« مشيرا الى ان استخدام النظام السوري، للورقة الطائفية، لم يبدأ مع الازمة السورية، بقدر ما هو امتداد لفلسفة ادارة ذلك النظام، للصراعات الداخلية في لبنان.

استخدام «الحكيم« مصطلح «الانعزالية« يعيد الى الاذهان، الخطاب السياسي المستخدم، خلال الحرب اللبنانية، في سنوات ما قبل ثمانينيات القرن الماضي، حيث تداولت القوى اليسارية والقومية المصطلح، في وصف الاحزاب المسيحية، بما في ذلك القوات اللبنانية التي يقودها جعجع.

السياق الذي جاء فيه استخدام المصطلح هذه المرة، لا يخلو من لغة اعتذارية، يحرص عليها قائد القوات اللبنانية، منذ خروجه من سجن وزارة الدفاع، وتطرق لها كتاب عنيد عدة مرات.

ففي سبتمبر من العام 2008 وقف جعجع بين انصاره ليقول لهم «عندما سقطت الدولة، حاولنا انقاذ ما يمكن انقاذه، بكل صدق والتزام واندفاع وحمية، وجل من لا يخطئ، خصوصا في مثل تلك الظروف، لقد اخطأنا في بعض الاوقات، كما قام افراد منا بمخالفات وارتكابات، لم نكن لنرتضيها لو كان بامكاننا تداركها، بعض هذه المخالفات والارتكابات، كانت وللاسف شنيعة مؤذية«. وفي احد فصوله يشير كتاب سيرة «الحكيم« الى ان «كل هذه المعارك، سواء كانت الخاسرة منها او الرابحة، تبقى وحشية وقذرة، كلها تفوح منها رائحة العرق والدم، كلها تركت طعماً مراً، في نفوس الذين عاشوها« الى جانب انتقادات للعاجزين عن طرد اشباح الماضي، ولغياب المصالحة رغم وقف الحرب.

الاشارات التي وردت في الكتاب، حول تقارب بين منظمة التحرير الفلسطينية والقوات اللبنانية في العام 1986، ومحاولة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، تحريك عجلة المصالحة بين جعجع والجنرال ميشيل عون، خلال معارك كسر العظم في العام 1990، تقود الى فهم اعمق، لطبيعة العلاقات في ذلك الزمن.

فقد ظهر عرفات من مقره في تونس، على شبكة تلفزيون «ال. بي. سي« التابعة للقوات اللبنانية، ليهاجم الدور السوري في لبنان، ردا على هجمات، كانت تشنها حركة امل بدفع من دمشق، عرفت في ذلك الوقت، بحرب المخيمات.

والمقدمات التي يوفرها الكتاب، تنطوي على دعوة صريحة وواضحة، لتفريغ حمولة خطاب العداء المتبادل، بين اطراف الحرب اللبنانية، واستحضار روافع فهم اوضح، للتورط الفلسطيني في دوامة العنف، الذي سبق وان انتقدته سير لقادة وكتاب فلسطينيين، في مراجعاتها لتلك المرحلة.

ففي عمق الصراع اللبناني الداخلي، قلق وجودي سابق، للوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وبالتالي عبرت المواجهة بين الفلسطينيين والقوى المسيحية اللبنانية، عن انجرار فلسطيني، لتناقضات داخلية لبنانية، كان يمكن تجنبه، لو امتلكت القوى المتصارعة في ذلك الوقت وعيا ورؤية مختلفين.

المنهجية التي قدمت فيها سيرة «حكيم« القوات اللبنانية، اضافة نوعية لقراءات لبنانية وعربية متعددة، تتجاوز سد بعض ثغرات مرحلة، من تاريخ الحرب الاهلية، الى توفير المناخ لمراجعات، تؤسس لمواجهة طوفان نزعات التطرف والتطرف المضاد، الذي يجتاح المنطقة.