Site icon IMLebanon

سيرة من حياتها.. في أسبوعها الأخير

رحلت «الست نهاد»، امس الاول، عن اربعة وثمانين عاماً، بعد معاناة مع مرض، الزمها الفراش لأكثر من ثلاثة اشهر، كنت اتردد دائماً عليها، لاطمئن الى «عمتي الشقراء» كما نسميها في العاقورة، ونحن الذين ورثنا علاقتنا ببيت سعيد، وعملنا مع «الست نهاد»، على الحفاظ على هذه العلاقة وتمتينها. 

الاربعاء الفائت وقبل اسبوع من موافاتها المنية، زرتها على جري العادة، فاستقبلتني، على جري العادة ايضا بـ «أهلاً يا عمتي فوت وسكر وراك الباب»، لكأنها كانت على دراية بدنو اجلها، فأسّرت الي بمحطات من مسيرتها السياسية، لكأنها أيضاً، أرادت ان تسجل بعضاً من وصية. 

وراحت تسرد لي كيف ترشحت للانتخابات الفرعية عام 1965 خلفاً لزوجها الراحل النائب انطون سعيد، الذي قضى بنوبة قلبية، بعد سنة على انتخابه نائباً للمرة الاولى. قالت «الست نهاد»: «دفنا انطون بقرطبا وتوجهت انا والختيار فارس سعيد والد انطون الى منزلنا في المتحف بعد الانتهاء من تقبل التعازي، من الاهل والاحباء، وطوال الطريق كان رأسي يعتمل بأفكار وهواجس تركها لي أنطون، فأنا أرملة في الثانية والثلاثين من العمر، ام لستة اطفال كبيرتهم في الثانية عشرة من العمر، وصغيرهم ثمانية أشهر، وترك لي مستشفى في بيروت، عليه تراكم ديون باكثر من ثلاثمئة الف ليرة لبنانية، وكيف بدي دبر حالي؟.» 

وأضافت وصلت الى المنزل ووجدت فيه والدي المحامي بطرس جرمانوس، والطبيب الخاص للرئيس فؤاد شهاب الدكتور انطوان مرعب ابن العاقورة، والنائب الشيخ خليل بشارة الخوري، والعميد سيمون سعيد، والدكتور بطرس ديب، وفور دخولي المنزل طالبوني بالترشح الى الانتخابات فوراً، لملء المقعد الذي شغر بوفاة زوجي، بناءً على رغبة الجنرال شهاب، فقلت لهم رشحوا سيمون سعيد، او انطوان مرعب او ادوار نون، فكان الرفض قاطعاً، عندها قررت خوض غمار الانتخابات فلبست طرحة الحزن وبدأت الحملة الانتخابية». 

قالت: «اول ما قمت به هو زيارة لغبطة البطريرك المعوشي لشكره على مواساتي بوفاة زوجي، وخلال اللقاء معه، قال لي البطريرك المعوشي، شو بدك يا مرا لمي هالولاد وانا بتكفل بالديون وبمستقبل الاولاد. 

وكان ردي صارماً، انا اعطيت الطائفة المارونية ستة اولاد، فماذا اعطاها غيري، في إشارة الى ان العميد ريمون إده الخصم الانتخابي لزوجها الذي كان عازباً«. 

خسرت الانتخابات قالت لي بفارق 450 صوتاً، والسبب الانقلاب ليلة السبت التي سبقت يوم الاقتراع، حين ارسل الرئيس شارل حلو الشيخ قبلان عيسى الخوري، الى الوزير السابق ادوار نون واعطاه ترخيصاً لاحدى الوكالات، واكمل جولته على الشيخ رفيق الخازن رئيس مكتب الفاكهة ومدد ولايته عامين على رأس المكتب، فكان الانقلاب الكبير في قلمَي مشمش ومجدل العاقورة الانتخابيين، ما تسبب بسقوطي في الانتخابات، إلا أن هذا السقوط، أخرس كل المشككين بفوز زوجي بثقة الناخبين، وليس بعصا المكتب الثاني، كما ان هذه النتائج عمّقت العلاقة مع الرئيس شهاب، وتحولت الى علاقة ابوة».

لم تتعب الست نهاد من الكلام، وأكملت كأنها تعيش تلك اللحظات، بتفاصيلها، فأخبرتني عن اللقاء الاول مع الزعيم كمال جنبلاط، في منزلها في المتحف، وهو لقاء أسس لعلاقة سياسية متينة وطويلة الامد. 

انتخابات العام 1968، يا عمتي: «كانت كسر عظم من دون رحمة ولا شفقة، تحالفت بكركي مع الحلف الثلاثي لاسقاط النهج الشهابي في كل لبنان وإسقاط عروبة لبنان، والعلاقة مع عبد الناصر». 

قالت لي: «طلب مني ابن خالي القاضي اسعد جرمانوس ان احضر عشاء مع السفير الاميركي في لبنان في منزله في الاشرفيه السيوفي، وخلال العشاء قال لي السفير الاميركي، نحن على استعداد لدعم حملتك الانتخابية، شرط ان تتحالفي مع العميد ريمون اده، وان تتخلي عن النهج الشهابي، فأجبته بحزم، إسألوا الرئيس شهاب، فإن وافق وافقت، وإن رفض اعتذر عن قبول عرضكم». 

بعد اللقاء الفاشل مع السفير الاميركي زارني رجل الاعمال المعروف جورج ابو عضل، طالباً مني قبول ظرف يحوي شيكاً بقيمة 50 الف ليرة لبنانية، وقال لي: «انا مع الحلف الثلاثي مرشح عن المقعد النيابي في جزين، وهذه هدية صغيرة، نحن نعلم انك لن تترشحي معنا، ولكن إقبلي هذه الهدية المتواضعة، على ان ننسق سوياً بعد صدور نتائج الانتخابات، فأجبته :»شكرا على لطفك وظرفك والله معك». 

يا عمتي بانتخابات العام 1968 كان الرئيس الراحل سليمان فرنجية وزيراً للداخلية، فأعطى جماعة من الارمن قدروا ب 150 صوتاً انتخابياً، لا يحملون هويات لبنانية، أعطاهم الوزير فرنجية تصريحاً شخصياً منه يخولهم الاقتراع في قلم «مار يعقوب» في مدينة جبيل، فخسرت الانتخابات بفارق 150 صوتاً بيني والعميد ريمون اده، فاوصلت الى الوزير فرنجية رسالة مع مرافقه حنا القس حنا من زغرتا، اشكره فيها على رد الجميل لانطون سعيد الذي استقبل في مستشفاه جرحى آل فرنجية في احداث 1958. ومن بينهم حنا القس حنا، الذي بقي يتردد علينا حتى وفاته».

سنة 68 يا عمتي، كان كمال جنبلاط يواجه الحلف الثلاثي، فأقام النائب فؤاد طحيني من دير القمر وليمة عشاء على شرف كمال جنبلاط، فكنت انا الشخصية المسيحية الوحيدة التي دخلت دير القمر وشاركت في العشاء رغم كل محاولات قطع الطرقات وحرق الدواليب ورمي اصابع الديناميت لترهيب الحضور، فقال لي يومها كمال جنبلاط: «وينن رجال الموارنة، ما في غيرك، تركي العمل المحلي انتي مشروع على مستوى الوطن»، ويومها يا عمتي قررت ادخل بالقضايا الوطنية والمطلبية، شاركت بلجنة الصداقة اللبنانية السوفياتية، واقمت علاقات متينة مع جورج حاوي ومحسن ابراهيم ومعروف سعد».

قالت لي: «يا عمتي سنة 1970 بالانتخابات الرئاسية، وقع خلاف بين كمال جنبلاط والرئيس فؤاد شهاب والشعبة الثانية، فسعيت لمصالحة الزعيمين، وعقدت في منزلي لقاءات عدة بين كمال جنبلاط وضباط من الشعبة الثانية، والدكتور بطرس ديب، والنائب الشيخ خليل الخوري، ولكن هذه الاجتماعات فشلت في تحقيق المصالحة لظروف خارجة عن إرادة الجميع». 

خلال الحرب الاهلية سعت «الست نهاد»، الى تجنيب بلاد جبيل، الحرب المذهبية: «يا عمتي انا بضيع الشيعة كانوا يسموني «الست زينب»، انا كنت مقصد اهالي المنطقة والشيعة قبل المسيحيين، كل مطالبهم كانت توصل لعندي، كيف بدي اسمح بتقاتل طائفي؟، يا عمتي لما خطفوا خيي كميل وقتلوه، سنة 1976، انهالت عليي عروض الأخذ بالثأر رفضتها كلها ودعيت على بيتنا فعاليات المنطقة من شيعة ومسيحيين وعملنا وثيقة شرف جنّبنا فيها بلاد جبيل الاقتتال الطائفي». 

انتخابات العام 1992، رفضت يا عمتي اترشح للانتخابات مع ان الفوز كان سهلاً، ريمون اده ما كان مشاركاً، التقيت دولة الرئيس ميشال المر والعميد ميشال خوري، في احد مطاعم سن الفيل، وعرضوا عليي تشكيل لائحة جبيلية لكسر المقاطعة المسيحية، فرفضت العرض، وأجبتهم لن أخرج عن إرادة سيد بكركي، وربحت الانتخابات بالمقاطعة، يللي ربحوا بوقتها ربحوا بـ 44 صوتاً، وصناديق بلاد جبيل وصلت عالسرايا فاضية». 

بانتخابات 1996 ربحت الانتخابات لأول مرة وعملت دورة نيابية كاملة، وانسحبت بانتخابات الـ 2000 لفارس. 

وختمت تحدثني عن علاقتها بخصمها اللدود العميد ريمون اده، الذي جمعتها به لاحقاً علاقة احترام بعد العام 1976، فكانت تلتقيه في باريس كلما زارتها للاطمئنان الى ابنائها. 

فسألته في آخر لقاء جمعهما قبل شهرين من موافاته المنية: على ماذا تندم يا عميد بعد كل هالعمر؟!! فأجابها على «مقاتلة الرئيس فؤاد شهاب، ومشاركته في الحلف الثلاثي». 

وبعد أن أعياها التعب استأذنتها المغادرة وسألتها ماذا تريدين مني يا ست نهاد؟ 

فأجابتني: «عندما اموت اعملولي استقبال بضيعتي بالعاقورة يليق بنهاد سعيد ومحبتها للعاقورة وابنائها».