IMLebanon

سيرة المرأة التي استقالت من الحرب

I ـ عذاب الضمير، مَن يقوى عليه؟

وحده الاعتراف يخفف وطأة الارتكاب، ويفتح الطريق إلى الندم وحظ الشفاء من المحنة. الحرب اللبنانية مدرسة في الانتهاك والتوحش. خمسة عشر عاماً حفلت بالفظاعات. السجل مكتظ بالارتكابات: الخطف والإخفاء، القتل على الهوية، التعذيب والإذلال، السيارات المفخخة والاغتيالات، القصف العشوائي للأحياء الآهلة، تلغيم خطوط التماس، هوايات القنص للعابرين، القتل والتفنن في أساليبه، السحل والجرجرة على الطرق، التجويع والحصار، الإعدامات بالجملة، الاجتياحات الكبيرة، التهجير القسري، الارتكابات فظيعة. والمرتكبون كثرة من اللبنانيين وشركائهم، ومع ذلك، لا يُعرف أن أحداً ذاق عذاب الضمير، باستثناء قلة، أقل من أصابع اليد الواحدة… الذين قاتلوا في الحرب اللبنانية، قتلوا أولاً ضميرهم، كي يرتاحوا إلى ما ارتكبته أياديهم. عدد «التماسيح اللبنانية»، يفوق عشرات الآلاف… لا أحد منهم تقدّم باعتراف. لا أحد تلا فعل ندامة. لذلك، القتلة بيننا وقد طوّبتهم السياسة بالبراءة.

حرب لخمسة عشر عاماً وبآلاف القتلى، وآلاف المفقودين، وآلاف المهجرين، يمكن تسجيلها ضد مجهول. ولكننا نعرف مَن هو هذا المجهول، الذي لم يشعر بوخز ضمير، وما أقدم على اعتراف، وما تلا فعل ندامة. المجرمون، ما زالوا مجرمين وقتلة، طي الكتمان المتعمّد.

استــثناءان: رجينا صنيفر وأسعد الشـــفتري، مــع شذرات لكتابات حمــلت عناء الحرب، ولم تندم.

II ـ النزول إلى القصر

كان كل شيء في البداية يوحي بالثقة وعدالة القضية ونبل النضال. رجينا صنيفر تربّت على الالتزام بالمقاومة المسيحية، دفاعاً عن «الشعب المسيحي». المهدّد، من أعداء الخارج وحلفائه في الداخل. قرنت قناعتها بالانتماء والعمل. انتظمت بعد «الكتائب» في صفوف «المقاومة اللبنانية» مع تفضيل حاسم لقيادة سمير جعجع. عذّبها الانقسام، رفاقها توزعوا على طرفي النزاع في «القوات»: مع سمير جعجع، أو مع إيلي حبيقة.

كانت البدايات واضحة لدى المتقاتلين. تعريف العدو كان حاسماً. الانعزالي، عدو الوطني. الأحزاب الوطنية عدو «الكتائب» ومَن معها. الفلسطيني حليف المسلم، عدو الأحزاب المسيحية والمجتمع المسيحي. الكيان في خطر، وأعداؤه ضد السيادة… كان لكل فريق قضيته الواضحة والحاسمة، والايمان بها مبرم وبلا نقاش. وحدث بعد ذلك، أن سقطت القضايا وظلت البنادق. استقر الأعداء في المواجهة من بعيد، وأفرخت الحرب حروباً صغيرة شرسة، بين الحلفاء والأخوة الأعداء. والحرب بين أنصار جعجع وبين أنصار حبيقة كانت الأفدح، والتهم المتبادلة بلغت مرتبة «الخيانة العظمى» وعقوبتها سلسلة من القتل. رفاق السلاح في البدايات، باتوا أعداء السلاح، عندما خلت الساحة من القضايا.

في «مقر السجن» بلغت رجينا صنيفر، مرتبة اليأس من «المقاومة». استردّت عمقها الإنساني. لم يعد لديها إجابات جاهزة وتبريرات وفق ترتيب جاهز. تفوّقت عندها المشاعر على الشعائر والشعارات. صدمتها التجربة وجرّحت في نسيجها كإنسانة: «ما أراه في هذا السجن، ليس ولا شك أفظع مما يجري كل يوم، منذ بداية الحرب، ولكنني كنت أجهل هذا العنف الذي أشهده الآن. فهذا السجن يضعني وجهاً لوجه مع فظاعة الحرب». وأفظع ما في الحرب، أن يصبح الرفاق أعداء، وان تتمرن البنادق بحقل رماية جديد: قتل الرفاق، بتهمة الخيانة، أو سجنهم وتعذيبهم وسحلهم وإخضاعهم ورميهم في البحر، مثقلين بالإسمنت والحجارة.

«كيف السبيل إلى تبرير تلك السجون؟ يستحيل عليّ. بل يشق عليّ تقبلها، لا سيما أنني كنت أكن الإعجاب والتقدير في الماضي، للشخص الذي أعطى الأمر بتلك الاعتقالات».

في السجن، يعود المعتقل إلى ماضيه، يسائل نفسه عما إذا كان يستحق الهدف هذا العذاب والتعذيب؟ يسأل عن القضية التي قاتل من أجلها معتبراً الخسائر الشخصية لا قيمة لها أمام ربح القضية، فإذا به سجين بقرار من قائده، أو من رفاقه؟ في السجن، يتهاوى الإيمان بالشعار ويسقط الوهم بالانتصار، عندما يصير الدمع تعبيراً عن المسرّة والخسران. تصف رجينا في زيارة لرفاقها في السجن، تدخل الزنزانة، فتتعرّف على «الريس فؤاد» الذي كان يحظى بإعجاب وتقدير رفاقه لاستقامته واهتمامه بالمقاتلين الشبان. تصفه: «كان واقفاً ملتصقاً بالحائط… ينهار إلى ركبتيه عندما يراني أدخل، وقـــد أحنى رأسه علّه يخفي بانحناءته دموعه. أضع يدي على كتـــفه، فإذا بظهره يهــتزّ من البكاء الذي يجهش به… يســـألني فؤاد أن أحمل إليه دواءه الذي لم يتناوله منذ أيام».

المراجعة تبدأ عند بلوغ القصر. تصف معتقلاً آخر، كان رفيقاً مناضلاً وطيباً: «يداه المرتجفتان تتشبثان بشعره، كما لو أنها تريد اقتلاعه… أرى على أذنيه علامات الكيّ وكدمات زرقاء على وجهه. عينه قد أُوسعت ضرباً فشوّهت، وشرمت شفته العليا… فجأة تنهمر الدموع من عينيه كطفح بركان حبيس منذ قرون، وجد له منفذاً للتوّ، أنفاسه العميقة والمتسارعة تخفي كل الغضب الذي تجيش به نفسه، لكثرة ما تراكم وقُمع فيها. أمام ذلك الشاب، لم أستطع الامتناع عن البكاء، البكاء عليه، علينا. في تلك اللحظة بالذات، فهمت أننا مغلوبون، وأن قضيتنا فرّغت من معناها…».

تكتب رجينا بعد ذلك: «أود لو أعود بالزمن إلى الوراء، فأعود وإياه إلى تلك الأوقات من الحرب التي حلم فيها بأن لبنان سيكون جميلاً، فأعود وإياه إلى تلك الأوقات حيث كانت شجاعته تتغذّى من الأمل (الغد ملك مَن خاطروا بغدهم) ألم يكن هذا ما وعدنا به أصحاب العقيدة المثقفون المتنوّرون، أو أولئك المفكرون الذين كانوا يقومون بزيارتنا على الجبهات. هذا ما وعدتُ به أنا نفسي المقاتلين الذين كنت ألتقيهم في ساحة القتال».

IIIـ انتهى كل شيء

بشاعات الحرب، برغم أهوالها، أقل من أن تتحوّل إلى عدو لرفيق لك في حزبك أو حركتك أو مقاومتك. بشاعات المعارك وقسوتها، لا تساوي أبداً اللحظة التي يتعامل فيه القائد مع معارضيه، على أنهم خونة وعملاء، تلزم تصفيتهم. الذين اقتسموا الخبز معاً ومشقة الجبهات وعذابات الحصار وفقدان الرفاق شهداء، يتحوّلون في معارك القادة، إلى مشبوهين، يتبادلون الشك والحقد، كأعتى الأعداء… الأعداء الحقيقيون، توواروا عن البنادق. حرب الأخوة هي البديل.

لذا، فكرت رجينا جدياً بمغادرة «القوات»، غيرها اختار الصمت خوفاً: «الذين كانوا يدّعون أمس، بكثير من الفخر والاعتزاز، انتماءهم إلى المقاومة المسيحية، باتوا اليوم يلتزمون الصمت فلا يجرؤون على الاعتراض على ما يجري حولهم من الفظائع، بل إنهم يصبحون الأعداء الجدد، الذين يفــــوقون خطراً أعـــداء الماضي من فلســطينيين وسوريين ولبنانيين مسلمين. وبهذا يسود الخوف والحقد كل مكان في بيتنا».

الانهيار يكتمل. لم يعد في الروح طاقة على الاحتمال. لا بدّ من الجرأة ومواجهة القائد. تشرح له رجينا المعاناة. معاناة السجناء والمعذبين. الجواب حاسم، يترجمه المسؤول بهذا الجواب الصارم: «لا مشاعر في الحرب».

لا مشاعر في الحرب؟ كيف؟

طبعاً! لا مشاعر لدى المجرمين والقتلة، المشاعر والأحاسيس والقيم، هجرت هذه الكومة من الرجال الأقوياء الذين انتشروا في الأحزاب والمنظمات والمجالس… لا مشاعر في الحرب. لذا، تعترف رجينا، بأنها، في تلك اللحظة، بدأت مسيرة العودة إلى الأصل الإنساني فيها: «هكذا بدأتُ جدّياً بإعادة النظر في التزامي. أما كنتُ أكرر طوال تلك السنوات أفكاراً جاهزة، منمّطة؟ هل لا يزال الأمر يتعلق بالمقاومة المسيحية؟ أتلك هي الطريقة الفضلى للدفاع عن الشعب المسيحي؟ ألسنا بصدد الإلقاء بمصيرنا بين أيدي حفنة من الوصوليين الذين يدّعون الكلام والعمل باسمنا؟ إلى ماذا آلت إليه قيم المسيح، في المسيحية التي ننبري للدفاع عنها؟ فنحن استولينا على صليبه لنحوّله إلى صليب من جديد، إلى خنجر… لقد فسّرنا الأنجيل بما يتلاءم مع قناعاتنا. وبكلمتنا وأفكارنا، جعلنا الدماء تسيل. إنني ألوم نفسي لأنني اتبعت تلك الأفكار بسذاجة، ولم أتبيّن ماهية الأفعال الحقيقية. لم أعد أعترف بأي من المبادئ التي شكلت قضيتي حتى الآن».

مَن سواها أقدم على هذا الاعتراف وعلى هذا الندم؟ كثيرون عرفوا في أحزابهم، ما عرفته رجينا، وعانوا ما عانته، ومِن ثم أقدموا على ترك أحزابهم، ولم يقولوا شيئاً ولم يصفوا ولم يعترفوا بشيء. فضّلوا الصمت على الإفصاح، والنسيان على الوعي… في الحروب، تسير القضايا والمبادئ في المؤخرة وتُسخّر الشعارات لتبرير الارتكابات.

IV ـ قررت التخلي عن كل شيء

لم نقرأ أو نسمع من التنظيمات الأخرى شيئاً، علماً أن الارتكابات التي توفّرها موجات الغضب والتوحش المتدفقة في الإقليم، على أيدي المنظمات الجهادية التكفيرية، وأمراء «داعش» و «النصرة» وجنرالات الأنظمة الاستبدادية الملكية والجمهورية، تبعث على الجنون. الخضوع مشين، التبرير جريمة، التغاضي عن الكبائر. حروب المنطقة، نسخة أكثر وحشية من الحروب اللبنانية، وليس هناك مَن يعترف ويندم وينسحب من فقه المجزرة.

لقد تجرأت رجينا صنيفر، بعد المعاناة ومعاينة البشاعات في صفوف معسكرها، على إعلان براءتها. وعندما قيل لها، «إن الإبقاء على رجال قيد الاعتقال في السجن أمر محرج، أما الجثة فلا تحمل توقيعاً»، أدركت أنها ما عادت تنتمي إطلاقاً إلى هذا العالم، وأنها ما عادت تريد السكوت على ما يحدث، وشعرت بضرورة أن تقف وتعترض وتتكلم… وهكذا تكلمت رجينا وتمردت. استوطنها غضب، وما عادت تستطيع ان تعيش مكتوفة اليدين، «تشهد على اغتصاب كرامات الرجال المحيطين بها». قالت: «لأجل كرامتهم ولأجل كرامتي، قرّرت التخلي عن كل شيء».

الاعتراف تنقية للنفس والندم طريق الشفاء. في ما بعد، يستعيد الإنسان أحاسيسه النبيلة ومشاعره الطيبة، ويتحصّن بمنظومة القيم التي تتخطى الحدود العصبية والسياسية. بعدها، يسقط التوحد ويُستطاب التعدد. الآخر المختلف لم يعد عدواً. هو إنسان أولاً. وبهذه الصفة، هو جدير بالاحترام والعطف والتفهم. ثم، يسقط الاصطفاف الذي يُعتبر زوراً، إنــه لحماية الطائفة أو الجماعة. تسقط منظومة الجماعات التقليدية والأهلية. يبرز الفرد كقيمة بذاته، بمعزل عن بيئته ومعتـــقده وجنــــسه وثقافته، يصير الإنسان هو الأول، وما عداه هو الأخير.

في هذا التمرّد على الذات، تتبدى إحراجات تدل على فقدان السياسة وعلى موقـــع الضمير الأخلاقي ومكانته في سياقات الحرب الأهلية. يقول جوزيف مايلا، شارحاً موقف رجينا صنيفر، إن هذه التساؤلات تقود إلى خيبة أمل كبيرة. ففي صلب الالتزام الحزبي يبدأ الشك بالبروز، وتظهر التساؤلات «حول انعدام الجدوى من صراع بلا نــهاية»، فأين هو المعنى الحقـــيقي للقتال؟ «بماذا يمكن تبرير المذابح؟»، كيف يتحــــوّل الدفاع عن النفس ذريعة لإقصاء الآخر؟ ما صيرورة الأقليـــات، أتكـــون ضحية العنف عليـــها أم تلجأ إلى استعمال العنف الذي يقودها إلى الهاوية؟

كل هذه الأسئلة تفقد جدواها في الإجابة النظرية. المبدئيات والنظريات تنكسر كآنية فخارية في الحرب الأهلية. في الحرب، يُقاس التصوّر الأمثل للحل النظري الجميل، «بالواقع المعيوش بكل كثافته واسوداده الحالك». وتتبدى، في سياق المعارك وجولات القتال والأثمان الإنسانية الباهظة. إن حرب الهويات، مقتلة، لا ينتصر فيها غير الموت. صراع الهويات كارثة، والهويات اللبنانية، مستولدة «من المتحدات الطائفية التي هي امتداد للكنيسة والمسجد».

Vـ ذهاباً وإياباً إلى الجحيم

لقد خرجت رجينا صنيفر من هذا الجدل العبثي، مطهَّرة من المقولات التي احتشدت في النخاع الفكري لأكثرية اللبنانيين، وهي لا تزال محتشدة في الإقليم الذي تدمّره صراعات الهويات والطوائف والمذاهب، بوحشية غير مسبوقة. تمرُّد رجينا أسقط أوهامها السابقة، كما يقول جورج قرم عن تجربتها. رؤيتها السليمة، التي استولدتها من الواقع، تصاحبت مع تمسكها بالأخلاق المسيحية والمبادئ الإنسانوية. ومنذ تلك الاعترافات، ما زال اللبنانيون محرومين «من أية مراجعة نقدية، إنسانية، أخلاقية وجدّية بشأن ارتكاب الجرائم الجماعية المتواصلة»… المسألة ليست فكرية وبنت العقل البارد. إنها نتيجة اكتواء الوعي بالتجربة المرّة. ولقد عبرت رجينا عن هذه التجربة بنداء: «لا تسلكوا هذا الطريق في المستقبل، لكي لا تروا ما رأيته في هذه المرحلة ذهاباً وإياباً إلى الجحيم».

هل يمكن لـ «مجمع الغفران» الذي يقترحه جورج قرم ان يدفن نهائياً بذور الإجرام الاجتماعي؟ هل من مصالحة ومصارحة مع الذات والآخر؟ مَن سيقوم بذلك؟

تجارب الأمم والشعوب التي امتُحنت بحروب أهلية، انتهت إلى علاجات للذاكرة وطرق معقولة للتعامل مع الماضي، وقرارات حاسمة للتوجه إلى المستقبل بسلام. ولكن، من الملاحظ، ان التجارب الشفائية الناجحة في أكثر من دولة، تصاحبت مع تغيير النظام بنظام سياسي، يمنع الحرب ولا يفشل بدرئها. في لبنان، لم ينتصر أحد. النظام القديم الذي انفجر، شقيق للنظام الذي استُولد من الحرب. لم يتغيّر النظام إلا الطبقة السياسية، سلالة أمراء الحرب. لذلك، ما زلنا نعيش سلامَنا على حافة الحرب.

هذا هو الجحيم اللبناني.