لماذا كل هذا الهلع من موقف مبدئي ثابت؟
فجـّر المطران الياس عودة الموقف السياسي وأحدث تفاعلاً قوياً أجبر «حزب الله» على الخروج عن طوره وإطلاق حملة شعواء إستحضر فيها كل واجهاته في الداخل والخارج، وعمل على إطلاق جيشه الإلكتروني للتشويه والتحريض والإثارة الطائفية والعنصرية، وحاول إعادة رسم ضغوطه على وسائل الإعلام لتثبيت موقفه وإعادة الإعتبار لصورته التي هزتها كلمات تلقائية، تتحدث عن حقيقة وواقع هيمنة السلاح غير الشرعي بما له من تداعيات خطرة على لبنان، يريد الحزب أن يجعله مصدر إيهام بالحماية والاستقرار.
ماذا قال المطران عودة؟
المطران عودة قال في القداس السنوي الذي أقيم في ذكرى إستشهاد جبران تويني إن «ما أخاف المسؤولين، ولا يزال يخيفهم، هو صوت الحق والحقيقة، صوت الشعب الجائع والمريض والمتألم، صوت كل محب للوطن لا للزعيم، صوت كل من لا يريد الهجرة بل البقاء وتأسيس عائلة وعمل في أرض آبائه وأجداده»، وسأل «هل نعيش في جمهورية أصنام أم دمى؟ هذا البلد يحكم من شخص كلكم تعرفونه ومن جماعة تحكمنا بالسلاح، اين الثقافة، والعلم والمستوى اللبناني الذي نفتخر به. شخص يرجع إليه ولا يرجع إلى الأعلى منه. ألا تسمعون ما يطالب به أبناؤنا في الطرقات اليوم؟ يطالبون بأن يلتفت المسؤولون إلى مطالبهم المحقة. لكن كلامهم المحق نجده يواجه بالتعامي أحيانا وبالعنف وإراقة الدماء أحيانا أخرى».
وإذ لفت إلى «أننا على يقين بأن السلطة محكومة بالإعدام، أما الشعب فلن يكتب له ولوطنه إلا القيامة والانتصار»، ذكّر بمقولة جبران تويني الذي كتب: «الآلية المطلوبة والمرجوة هي حوار صريح وواضح وفي العمق، بعيدا من التخوين أو التهويل أو التهديد، وحوار جدي خارج إطار المماحكات والنكايات. لا نقبل بأن يعود البعض إلى فتح بعض ملفات الحرب دون سواها من أجل زرع النعرات الطائفية وخلق أجواء تشنج لا يريدها أحد، إلا الذين يريدون الإساءة إلى الوطن ووحدته». الدعوة اليوم إذن هي إلى العودة إلى الوطن، والتضحية من أجله حتى بالنفس، كما فعل جبران، لا إلى التناحر والتقاتل، بل إلى التحاور وإيجاد النقاط المشتركة التي توصل إلى غد أفضل.
تداعيات الخطاب
رغم أن كلمة المطران عودة زخرت بالدعوة للحوار وإتسمت بالموضوعية في مقاربة التطورات، وأطلقت صفارات الإنذار من مخاطر التجاهل للأسباب الحقيقية للأزمة، وهي الهيمنة الآحادية وسقوط التوازنات، وتهديد هوية لبنان الحضارية المعروفة بتنوعها وغناها وإنفتاحها على العالم، مع التمسك بالانتماء العربي.
لكن المصارحة التي تلاها المطران عودة كانت كافية لإخراج رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد ليصرّح بأن «المقاومة هي التي حمت وتحمي لبنان، وهي التي تمنع العدو الإسرائيلي من أن يفكر في ارتكاب أي حماقة، في شن حرب جديدة على لبنان، لأن المقاومة فرضت على العدو معادلة توازن الرعب» معتبراً أن «الصوت الذي يخرج ويقول هذا البلد يحكمه رجل واحد، وتحكمه جماعة واحدة تستقوي بسلاحها، بكل بساطة، لا نريد أن نفتح سجالاً، هذا البلد أكبر وأهم من أن يحكم من رجل واحد، مع تقديرنا واحترامنا واعتزازنا بهذا الرجل وعقله وحكمته ورشاده، لكن لأنه حكيم لا يسمح لنفسه بأن يحكم البلاد وفيها عقول أخرى وفيها مكونات أخرى، لكن هذا الكلام يصدر عمن يحاول أن يجهل الأسباب الحقيقية للأزمة، ومن يحاول أن يغطي ويبرر لمحاولة استهداف المقاومة في لبنان، وهذا الكلام ليس بريئا على الإطلاق».
وفي سياق الردود، غرد وزير الدفاع في حكومة تصريف الاعمال الياس بو صعب على تويتر قائلا: «مؤسف ما سمعناه من كلام سياسي غير جامع وتخطى المطالب الاجتماعية للمواطنين فزادت قناعتنا بأن لا خلاص للبنان إلا بدولة مدنية، فيكون هناك فصل للدين عن الدولة».
إستحضارٌ أرثوذكسيُ مضاد
وإستحضر إعلام «حزب الله» وآلته السياسية شخصية دينية أرثوذكسية من عالم الممانعة هو مطران القدس عطاالله حنّا الذي ردّ بإنفعال شديد، فعبـّر «عن رفضه التام والمطلق» لما ورد على لسان عودة، مشيرا الى أنه «آلمنا وأحزننا كثيراً ما سمعناه اليوم من تصريحات غير مبررة وغير مقبولة في كاتدرائية بيروت الارثوذكسية، معتبرا أن الكنيسة ليست مكانا للتحريض والإساءة لأحد بل هي مكان محبة وتكريس للقيم الاخلاقية والانسانية والوطنية النبيلة».
ولم ينس المطران حنا تكرار معزوفة حماية «حزب الله» للمسيحيين في سوريا والمشرق، ملبساً أمينه العام حسن نصرالله أثواب القداسة رافضاً «التطاول على مقام سماحة السيد وحزب الله وإذا ما كانت هناك تحفظات فلا اعتقد ان منبر الكنيسة هو المكان اللائق للتعبير عن مثل هذه التحفظات، وما صدر عن سيدنا مرفوض ولا يمثّلنا كمسيحيين ولا ارثوذوكس لا في لبنان ولا فلسطين ولا المشرق العربي».
لماذا كلّ هذا الهلع؟
أما عن سبب الهلع الشديد والتداعي الكثيف لكبار قيادات «حزب الله» إزاء موقف المطران عودة، فإن السبب الأهم، هو أن هذا الموقف جاء ليخرق عملية الإسكات والإرهاب الفكري و«التطبيع» الطوعي والإكراهي، التي قادها الحزب تجاه معارضيه في لبنان، منذ آب 2017 تاريخ ما سُمي معركة «فجر الجرود» والتي إنتهت إلى تحريم وتجريم الإعتراض على سلاحه غير الشرعي، حتى بات من يتحدث بهذا المصطلح وكأنه يرتكب جريمة، أو ينتهك حُرُماً، أو يخترق عـُرفا، بل قانوناً في ميزان الحزب وآلته الإعلامية وسطوته السياسية، وذلك بعد حملات ضغط أسفرت عن رفع معظم القوى السياسية شعار «ربط النزاع» وإعتبار سلاح الحزب مشكلة إقليمية، وبالتالي لا يجب الإعتراض عليها بإنتظار التسويات الإقليمية والدولية، وأوّلهم تيار المستقبل، لولا مواقف الدكتور مصطفى علوش الراسخة، والنائب نهاد المشنوق، قبل وبعد خروجه من كتلة المستقبل. وهذا ما أحدث حالة تطبيع وإخضاع سياسي وإعلامي، كاد أن يحول الأحزاب إلى ما يشبه أحزاب الجبهة الوطنية في سوريا وشاشات التلفزة إلى شاشة «المنار».
جاء موقف المطران عودة في وقتٍ يجهد فيه الحزب لفرض وجهة نظره القائلة بأن الثورة لم تقم ضد سلاحه، وأنها في الأساس إجتماعية معيشية ومطلبية وليس لها أي بُعدٍ سياسي، وهذا ما تثبت الأحداث عدم صحته، لأن تتابع الأحداث يعطي نتيجة واحدة: ان سقوط الحدّ الفاصل بين الدولة والحزب هو سبب هذا التداعي الخطر للأوضاع في لبنان.
يدرك قادة «حزب الله» أن دعاوى الدولة المدنية التي تبجّح بها وزير الدفاع المستقيل بوصعب هي نوعٌ من الخزعبلات من حليف حزب يجاهر بولائه العقائدي والفكري والسياسي والعسكري لنظام ولاية الفقيه وأن مشروع إيران هو أبعد من حدود لبنان وأن دوره يتمثل في إتخاذ هذا البلد رهينة لصالح طهران في صراعها المتمادي في المنطقة.
لو لم يوجع موقف المطران عودة قيادة «حزب الله» لما قامت كل هذه الضوضاء والصخب، لكن أجمل ما في ثورة 17 تشرين الأول أنها كسرت كل أوهام سيطرة الأحزاب الطائفية وتلك المستغلة لها على الناس. فالشعب مضى في خياره لتحقيق الحرية والسيادة وتأمين التنمية والحقوق والعدالة والمساواة.
يرمي الممانعون سيناريوهات التخويف من الحرب والفوضى، وهم يعلمون أنه ليس لديهم شريك لا في الحرب ولا في الفوضى وأنهم لاعب منفرد، لن يستطيع إشعال الفتن لأن الناس باتت تعلم علم اليقين من هو موقد النار وكيف سيخمدها بالوحدة الوطنية الجامعة.