IMLebanon

المطران فرنسيس البيسري… عنوان الفرح المسيحي والمرح البريء

يُغادرنا المطران فرنسيس البيسري بعد سنوات من الكدّ والجهد والسهر في التعليم والتقديس والرعاية ليدخل بيت الله الآب وينعم في الملكوت، مع مَن سبقه من كبارنا، بالفرح الأبدي في وليمة عرس الحمل.

تعرّفتُ إلى الخوري فرنسيس في أواخر الستينيات من القرن الماضي يومَ كان خادماً لرعية البترون وكنت أنا طالباً اكليريكياً أنشط مع الشباب في أبرشيتي خصوصاً الفرسان والطلائع.

وكان قد أسّس حركة فرسان العذراء وشجّع الجمعيات على القيام بدورها الكنسي والإجتماعي، خصوصاً جمعية مار منصور وكشافة لبنان. وكان، بصفته أستاذاً للفلسفة في مدارس البترون، يغتنم الفرصة ليَجمع الشباب والصبايا بين المدرسة والكنيسة وينطلق معهم في حملة تنشئة على القيم المسيحية والإنسانية والوطنية بغية اضطلاعهم بدور ريادي في الكنيسة والمجتمع.

أما على المستوى الكهنوتي والكنسي، فانضمّ أولاً إلى الرابطة الكهنوتية التي كانت تجمع كهنة أفاضل من كنيستنا أمثال حارث خليفه ومارون مطر ويوحنا كوكباني ومرسيل حلو وبطرس الجميّل، والتي كانت تسعى إلى حركة تجدّد وإصلاح روحيّ وكنسي وليتورجي قبيل المجمع الفاتيكاني الثاني وبعده.

ثم التزم مع بعض إخوته في تجمّع كهنة الشمال- هيكتور الدويهي، آميل سعاده، أنطون دهمان، يوسف بشاره، يوسف ضرغام، بولس الفغالي، جورج رحمه، فيكتور كيروز، حنا نكد- الذين كانوا يلتقون أسبوعياً، يوم لم يكن هناك من لقاءات منتظمة للكهنة في الأبرشيات، ليصلّوا ويفكروا معاً ويحضّروا عظاتهم واحتفالاتهم الليتورجية، ويخطّطوا معاً لمستقبل كنيستهم.

ثم عمل مع المطران عبدو خليفه والخوري يوسف بشاره على تعريب نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني (1969) لتكون في متناول مَن «تهمّهم توجيهات المجمع العقائدية والراعوية»، آملين «أن تؤدي خدمةً للقرّاء وأن تكون هذه الوثائق خميرة صالحة بين أيديهم، فينهلوا منها ثمار المعرفة الروحية التي تقودهم إلى وعي مسؤولياتهم في الكنيسة وعياً أكبر فيتحمّلوها بروح الإلتزام والتضامن والمحبة».

بعد ذلك عدتُ والتقيته في أواسط الثمانينيات في الرابطة الكهنوتية عندما أتى الخوري يواكيم مبارك من باريس يلقي عظات الرياضة الروحية السنوية ويطلق مشروعه النبوي، ألا وهو عقدُ مجمع لبناني ثانٍ يعمل على تجديد الكنيسة المارونية وإطلاقها في رسالة أممية متجدّدة.

فتألّفت في 18 تموز 1985 لجنة سباعية تعمل بإشراف الخوري مبارك، وكان في عدادها الخوارنة يوسف بشاره، يوسف ضرغام، بولس الفغالي، فرنسيس البيسري، بولس مطر، ومنير خيرالله، وتهيّئ لإطلاق المسيرة المجمعية التي رافقها الخوري البيسري كاهناً ثمّ مطراناً، بقيادة المطران يوسف الخوري ثمّ المطران يوسف بشاره، حتى انعقاد المجمع البطريركي الماروني واختتام أعماله في حزيران 2006.

وفي حزيران 1991، انتُخب مطراناً نائباً بطريركياً على منطقة الجبّة بعدما كان قد خدم 27 عاماً رعية البترون التي قال فيها: «كانت البترون رعيتي وحدها. رعيتي الأولى والأخيرة. كانت لي كرْماً فأحببتها وانحنيت عليها وأعطيتها ذاتي وما لديّ.

أعطيتها زهرة عمري وأجمل أيامي. نكشتُ أرضها الخصبة ونزعت أعشابها المضرّة فجنيت من عناقيدها الشقراء ما حلا لي. وزرعت في أعماقها كلمة الله عن طريق الزيارات الشخصية أو الخدمة الراعوية والسهرات الإنجيلية».

ترك البترون ليعود مطراناً راعياً إلى منطقته، وهو من بلدة قنات، وإلى الصرح البطريركي في الديمان الذي يتذكر أنّ قدميه وطأتاه للمرة الأولى وهو ابن إحدى عشرة سنة «وما إن نظرتُ إلى العذراء السوداء، يقول، التي تقف فوق المدخل حامية أهل الصرح وداخليه، حتى صليتُ لها ولا أزال أصلي كلّ مرة أدخل الصرح وعليها أتّكل. فمَن كان للعذراء عبداً لن يدركه الهلاك أبداً».

وهذا فعلاً ما جعله يؤسّس فور دخوله إلى رعية البترون حركة فرسان العذراء ومنها ينطلق في مسيرة بناء للمجتمع وللوطن مع الشباب والصبايا بشفاعة العذراء مريم. وقد حاولتُ أن أتابع عمله بعد تسلّمي خدمة الرعية خلفاً له، ولمدة عشرين سنة.

وحدّد «الخدمة والإنفتاح» عنواناً لخدمته الأسقفية، عبر «التقرّب من الضعيف والتعاون مع ذوي الإرادات الخيّرة لننهض معاً بالوطن ونسهم فعلاً في مسيرة إعادة الإعمار والبناء ونثبت أننا نستحق هذا الوطن».

ووضع خطتَين عمليَتين لتطبيق هذا الشعار:

الأولى: «سأحمل عصا الرعاية لأرعى وأهدم وأنقض وأبني وأغرس، لأنّ يد الله ستكون معي. وسأكون الراعي خادم الرعية كما كان شعاري في كهنوتي الذهاب إلى أبناء الرعية حيث هم. قديماً كان الناس يذهبون إلى العين، واليوم دخلت الماء كلّ البيوت. أتت العين إلى الناس. وهكذا سأحمل الماء الحيّ إلى النفوس العطشى وسأكسر الخبز الحيّ للنفوس الجائعة حيث هي ولن أنتظرها في مقرّي».

الثانية: «العودة إلى الينابيع. والينابيع هي في هذه المنطقة التي منها انطلقنا إلى لبنان، كلّ لبنان، حاملين الفضائل الإنجيلية والقيم المسيحية من محبة وسلام وصدق وإخلاص. الينابيع هي في جبال الأرز الشامخة وفي وادي قاديشا وفي هذه المغاور والمحابس وفي هذه القرى المنثورة على شفا الوادي. والينابيع هي آباؤنا الروحيون والبطاركة والأساقفة والنساك. والينابيع أخيراً هي عيالنا التي كانت فيها الأم راهبة البيت والأب كاهنه».

أيها الأب والأخ والمعلّم والراعي، نشهد اليوم، أنك كنت أميناً على وديعة الكهنوت في خدمتك الكهنوتية وعلى وديعة ملء الكهنوت في خدمتك الأسقفية، على وديعتين تسلّمتهما من الرب يسوع المسيح الكاهن الأوحد والأبدي والراعي الصالح لبنيان الكنيسة وتمجيد الثالوث الأقدس. إنك حقاً تستحق اليوم جزاءَ الخادم الأمين.

تفتقدك كنيستك المارونية، تفتقدك منطقة الجبّة، وتفتقدك البترون. يفتقدك فرسانك في البترون الذين يحضّرون لاحتفالات اليوبيل الذهبي على تأسيسهم؛ ولكنك سترافقهم من السماء.

نفتقدك نحن إخوتك في مجمع الأساقفة إذ كنت تضفي على إجتماعاتنا مسحة «المَرَح البريء»، كما سمّاها غبطة البطريرك مار نصرالله صفير يوم رسامتك الأسقفية.

يفتقدك لبنان في هذه الظروف العصيبة لأنّ أبناءه يحتاجون إلى روح الحكمة والاعتدال والبراءة والعودة إلى الينابيع عندك لكي يتوصلوا إلى إعادة بناء وطنهم لبنان، الوطن الرسالة، في دعوته التاريخية وفي رسالته العالمية.

وتبقى في أذهاننا جميعاً صورةُ القُبلة التي طبعها البابا القديس يوحنا بولس الثاني على جبهتك وأنت متأثر ومبتسم فرحاً وحبوراً في خلال الجمعية الخاصة لسينودس الأساقفة من أجل لبنان في روما سنة 1995.