… وفي ارض السيد المسيح في بلدة مغدوشة، وداخل مقام سيدة المنطرة والمغارة العجائبية، رُفعت الصلوات واقيم قداس في الشهر المريمي، على نية الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين الذين ينفذون اضرابا عن الطعام لليوم السابع عشر، في التفاتة تحمل الكثير من المعاني التي تدل على عمق الترابط بين الكنيسة وقضية شعب ما زال يعاني الاحتلال منذ سبعة عقود.
وقف مطران صيدا ودير القمر للروم الملكيين الكاثوليك ايلي بشارة الحداد، امام جمع من طلاب مدرسة السيدة في مغدوشة، متحدثا عن معاناة الاسرى الفلسطينيين الذين يواجهون الظلم والاحتلال، ودعاهم الى الصلاة من اجل نصرة قضية وطنية وانسانية، ليترأس الصلاة بقداس على نية من اراد ان يعبر عن وجعه بالاضراب المفتوح عن الطعام، علَّ العالم يسمع قضيتهم العادلة.
وقال المطران الحداد لـ «الديار».. هذه الوقفة هنا ترعاها سيدة المنطرة، وهي للتضامن مع اخوتنا الاسرى الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية، خاصة وانهم يدافعون عن قضية عادلة، حتى في السجن يستطيعون ان يعبروا عن معاناتهم وتحديهم للاحتلال، وهو اصدق تعبير، لانه يترافق مع الم ووجع، وصرختهم من داخل السجون ارادوها ان يستمع العالم الى قضيتهم، ربما يكون اضراب الاسرى الفلسطينيين والوقفات التضامنية، لهز ضمير العالم الذي لم يستمع بعد لما يجري داخل الاراضي المقدسة، وفي هذه الوقفة التضامنية عن مقام سيدة المنطرة، اراد هؤلاء الطلاب التعبير عن تضامنهم مع الاسرى الفلسطينيين بالصلاة على نيتهم، كي يكون الرب معهم، ومن اجل ان تبقى القضية الفلسطينية قضية مقدسة لنا جميعا، وتوجه الى الاسرى الفلسطينيين بالقول .. ان هذه الارض التي شهدت دماء كريمة من عمق جنوب لبنان الى الاراضي المقدسة في فلسطين، لن تكون الا ارض قداسة وارض شهداء وارض كرامة، فمن سيدة المنطرة الى فلسطين الى بيت لحم الى كنيسة القيامة الى الاقصى الى كل مكان مقدس في فلسطين، ونحن على تواصل مستمر.
اما سيلفيا عمون التي شاركت بحماسة في الوقفة التضامنية فقالت .. من داخل بلدتي مغدوشة تربيت على القضية الفلسطينية، وقدم بيتنا شهيدين من اجل قضية فلسطين هما والدي وشقيقي، سألت نفسي كيف يمكن لنا ان نتضامن مع الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الصهيونية، في مغدوشة التي تعتبر ارض السيد المسيح؟، خاصة واننا في الشهر المريمي الذي تحرص البلدة على احيائها منذ سنوات طويلة، وقد رحب سيادة المطران ايلي بشارة الحداد بالفكرة التي لاقت استحسانا كبيرا لديه، خاصة وانه سبق له ان اقام سلسلة من الوقفات التضامنية مع القضية الفلسطينية، ومنها مباركة الناشطين الذين ركبوا السفينة نحو فلسطين لكسر الحصار عن قطاع غزة، قبل سنوات، بقداس اقيم في المغارة العجائبية، وهو عمل بكل اخلاص على تحقيق هذه الوقفة وانجاحها.
حكاية الكنيسة مع كيان الاحتلال في فلسطين
وتشير اوساط كنسية، الى ان الموقف الاساس للفاتيكان من القضية الفلسطينية، تبلور قبل الوعد الذي اعلنه اللورد البريطاني آرثر جيمس بلفور في العام 1917، ففي العام 1904، وحين طلب تيودور هرتزل من بابا الفاتيكان بيوس العاشر ان يبارك اقامة إقامة وطن قومي لليهود في أرض فلسطين.. يومها أجابه البابا ..لا يمكننا مساندة الحركة الصهيونية، ان أرض القدس قدسها يسوع المسيح بحياته فيها، وأنا بصفتي رئيسًا للكنيسة لا أستطيع أن أجيبك خلاف ذلك، اليهود لم يعترفوا بسيدنا يسوع المسيح، لذلك لا يمكننا نحن الاعتراف بوضع اليهود أياديهم على القدس، وتلفت الى ان الفاتيكان وقفت ضد تشريد الشعب الفلسطيني قبل سبعة عقود، وبفعل التعقيدات في الصراع العربي ـ الاسرائيلي، نادت الفاتيكان بوصاية دولية على القدس حيث يعهد بإدارة فلسطين إلى الأمم المتحدة، انطلاقا من الحفاظ على الشخصية المقدسة لموطن السيد المسيح، لكن هذه الدعوة لم تلق قبولا لدى العديد من الاطراف والجهات، وحسم الفاتيكان موقفه بعبارة صدرت عن الكنيسة الكاثوليكية «أن أسوأ ما يمكن أن يحدث للقدس هو أن تقع تحت سيطرة اليهود».
افتتاح سفارة فلسطين في الفاتيكان .. شرَّع ابواب العواصم الاوروبية
وبرأي الاوساط الكنسية، فان الاسرائيليين عملوا على محاصرة الفاتيكان، انطلاقا من المخاوف من علاقة بين الكنيسة الكاثوليكية وما تمثله من نفوذ ديني وروحي يطال اكثر من مليار ونصف المليار مسيحي ينتشرون في انحاء العالم، وبين منظمة التحرير الفلسطينية التي حظيت بمكانة رفيعة في اوساط الفاتيكان، بدءاً من قداسة البابا، الامر الذي شكل ازعاجا استثنائيا لدى الاسرائيليين الذين تحدثوا عن «مخاطر» تلك العلاقة القائمة بين الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني انذاك، والذي تشكله منظمة التحرير، وبين اعلى مركز ديني في العالم، بالنظر الى ما يشكله البابا من سلطة دينية لها حضورها وقيمتها العالمية، فكان ان استضافت صالونات الفاتيكان العديد من القياديين الفلسطينيين، ووصل الامر في العلاقات الطيبة هذه، الى وجود ضابط فلسطيني للتنسيق والتواصل مع دوائر العلاقات الخارجية الفاتيكان، وتطورت العلاقات اكثر بعد وصول البابا يوحنا بولس الثاني الى كرسي الفاتيكان، فيما سادت اجواء من التوتر بين الفاتيكان والكيان الاسرائيلي، الامر الذي دفع برئيسة وزراء العدو انذاك غولدا مائير التي خرجت من لقاء البابا بولس السادس بالقول «إن ساعة الفاتيكان غير ساعة العالم».اخطر ما واجه الاسرائيليين، الاعتراف الرسمي للفاتيكان بالدولة الفلسطينية الذي اسهم في تعزيز العزلة التي عانى منها الكيان الاسرائيلي دوليا، جراء تصاعد الممارسات العنصرية التي مورست بحث الفلسطينيين، وتشريع ابواب العواصم الاوروبية امام القيادات الفلسطينية، وبالتالي، فان ذلك شجع العواصم الاوروبية للعب دور ولو محدود، على مستوى ايجاد حل لمشكلة الشرق الاوسط الممثلة بقضية الشعب الفلسطيني، وقد افتتحت سفارة فلسطينية في الفاتيكان، اضافة الى سفارات عدة في عواصم اوروبية وفي اميركا اللاتينية، وقد قرأ الاسرائيليون خطوات التأييد والتعاطف مع الشعب الفلسطيني، التي اقدم عليها الفاتيكان، وهو كان بمثابة انحياز الى جانب قضية الشعب الفلسطيني بمسيحييه ومسلميه، ودحضا للاكاذيب الصهيونية عن « دولة بلا شعب.. وشعب بلا دولة».
الاحتلال: استهدف الوجود التاريخي للمسيحيين واهانة مقدساتهم
وتتناول الاوساط الكنسية عند الاستهداف الاسرائيلي للوجود التاريخي للمسيحيين في فلسطين، وبخاصة في القدس، وما جرى في دير الاباء الفرنسيسكان في طبريا ، وتدنيس مصلى الكنيسة وتكسير المذبح وتمثيل السيدة العذراء والقديس أنطونيوس، وانزال تمثال السيد المسيح من على الصليب، وألقاء قنابل يدوية على باب الكنيسة، وتمزيق الأردية الكهنوتية المقدسة وسرقة كؤوس القربان وتكسير الصلبان، وهو ما اشار اليه التقرير الصادر عن بطريركية اللاتين في القدس في العام 1948.
ولان الفاتيكان ينظر الى اقدم قضية محقة لشعب، جزء منه ما زال تحت الاحتلال والجزء الآخر تشرد في اصقاع الارض، نظرة عادلة، فان الحفاوة التي خصها البابا للرئيس الفلسطيني قبل عامين، جاءت لتترجم التعاطف الكنسي مع الشعب الفلسطيني، وفي دلالة على قداسة الارض الفلسطينية منذ ما قبل النكبة عام 1948 وقيام الكيان الاسرائيلي على ارضها، تم تطويب راهبتين فلسطينيتين هما ماري الفونسين غطاس 1843 – 1927 ومريم بواردي (1846 – 1878 )، فالبابا فرنسيس اصاب الاسرائيليين بخيبة امل كبيرة، نتيجة تعامله مع الملف الفلسطيني، بالرغم من دعوة الفاتيكان الى حل للقضية الفلسطينية وانهاء النزاع في اطار حل الدولتين، لكن الاسرائيليين ماضون في الخطوات الهادفة الى تهويد القدس والقفز فوق كل قرارات الامم المتحدة، بما فيها ادانتها بناء المستوطنات في المناطق الفلسطينية المحتلة.
كنيسة المهد التي احتضنت الفدائيين الفلسطينيين
وفي اشارة الى ما جرى قبل خمس عشرة سنة من حصار لكنيسة المهد في بيت لحم، مهد السيد المسيح، تعتبر الاوساط الكنسية، ان هذا الحادث هو الاكثر وقاحة وانتهاكا للاماكن المسيحية المقدسة، حيث فرضت قوات الاحتلال حصارها على الكنيسة التي احتضنت مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين داخل الكنيسة لمدى اربعين يوما، بعد ان اقتحمت مدينة بيت لحم وحشدت الالاف من جنود الاحتلال، وبعد معارك بطولية خاضها المقاومون الفلسطينيون ضد الاحتلال الذي غزا بيت لحم، حوصر الفلسطينيون داخل الكنيسة مع 40 قسيسا وراهبا وراهبة ومئات العائلات الفلسطينية الهاربة من مطاردة الاحتلال لهم،.. يومها عبر القساوسة والرهبان عن شعورهم بالمسؤولية الانسانية تجاه من لجأ اليهم، فيما قال مقاتل فلسطيني محاصر.. سأبقى في الكنيسة الى جوار الرب.. افضل الموت فيها»، لكن مفاوضات جرت كان الوسيط فيها المنظمات الدولية والاتحاد الأوروبي بمشاركة السلطة الفلسطينية والفاتيكان، وادت الى اخراج الفدائيين الفلسطينيين من الكنيسة وابعادهم عن الضفة الغربية الى الدول الأوروبية، ليقيموا لاحقا في قطاع غزة، لكن الاسرائيليين رفضوا عودتهم .