«إذا جريت مع السفيه كما جرى … فكلاكما في جَريه مذموم وإذا عتبت على السفيه ولُمته … في مثل ما تأتي فأنت ظلوم لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله … عارٌ عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك وانهها عن غِيّها … فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى … بالعلم منك وينفع التعليم» أبو الأسود الدؤلي
قواعد السلوك الاجتماعي لم تكن يومًا مقدمة سابقة للاجتماع البشري، بل كانت حاجة البشر للاجتماع في وحدات كبرى للتعاون والتكامل وإسقاط الخوف الدائم من الآخر، هي التي ولدت قواعد السلوك، وهي التي أصبحت مع الوقت رديفًا للأخلاق. هذه القواعد، بعضها يصبح شرائع وقوانين يتّفق عليها مجتمع ما ويرسم على أساسها قواعد الثواب والعقاب، أو ما يسمّى «الضابط العادل» الذي يحفظ التوازن السلمي في المجتمع، ويسمح باستمرار هذا النوع من المجتمعات. هذه القواعد «السلوكية الأخلاقية» ليست إذًا مقدسة، ولا آتية من عالم الماورائيات، بل هي نتاج التجارب البشرية، وهي عرضة للمراجعة والتشذيب والتطوير وحتى الإلغاء الكامل على طريق «التدمير الإبداعي»، حيث تختفي قواعد بالكامل، إما لانتفاء الحاجة لها، أو لظهور بدائل أنجع. وهنا يأتي التغيير كوسيلة لإنقاذ وحدة المجتمع والحد من الخلاف، حتى لا تتحكم المعايير المزدوجة في مسار البشر، وتخلق أسباب التشاحن والشجار.
بالعودة إلى المعايير المزدوجة، فهي ما يشبه المثل الشعبي «صيف وشتاء على سطح واحد». هو يعني أن مبدأ ما أو قاعدةً متفقاً عليها، يتم تطبيقها بشكل مختلف على مسائل متطابقة، من دون أي تسويغ منطقي ومقبول لهذا المنهاج. هذا يعني، على المستوى العام، أن أفرادًا أو مجموعات مختلفة يتم التعامل معها بشكل مختلف، عندما يتوجّب التعامل معها بشكل متساو. من البديهي هنا القول ان تطبيق المعايير المزدوجة يؤدي عادة إلى ارتفاع نسبة التشنج الاجتماعي والشعور بالظلم من جهة، والاستقواء من جهة أخرى، بالتالي فتح الباب للفرقة والصراع، ومعها الرغبة بالانفصال.
مثل أدبي عظيم عن المعايير المزدوجة وضعه الكاتب الراحل المبدع «جورج أورويل» في روايته الشهيرة «مزرعة الحيوانات»، عندما رفعت حيوانات المزرعة شعار تحررها من السلطة بالقول «كل الحيوانات في المزرعة متساوية في الحقوق والواجبات» وكان هذا أساس استقرار جمهورية «مزرعة الحيوانات الشعبية». لكن، لم تلبث مجموعة الخنازير أن استقوَت على الباقين، وتمكنت من منح أفرادها امتيازات لا تتمتع بها الحيوانات الأخرى. أخضعت الخنازير الآخرين عن طريق الخداع والخوف والاغتيالات. بالمحصّلة، حصلت خيانات وتعاونت بعض المجموعات مع «العدو» لهزيمة السلطة «الخنزيرية» وانتهت الأمور إلى انفراط عقد الجمهورية، بعد أن ترحّم معظم مواطني هذه المنظومة على أيام ديكتاتورية صاحب المزرعة الظالم، لكن بمعايير واحدة.
وهنا، فمن الجدير القول انّ اتّباع المعايير المزدوجة قد لا يكون دائمًا لأسباب خبيثة مسبقًا، فقد يعتقد البعض أن الخير لن يأت إلا عن طريق جماعتهم، وان الشر محصور في الآخرين. وبالتالي، فإنّ ممارسة التمييز هنا يصبح هدفه الخير للجميع! ومن ضمنها مثلًا تعبير مخاطبة جمهور ما في مناسبة ما بأشرف الناس، وبالتالي تسويغ أفعالهم المخالفة للقواعد الاجتماعية التي تسمح بالاستقرار. لكن خلو هذا الأمر من النوايا الخبيثة لا ينفي خبثها بالنتائج.
منذ أيام قرأت مقالًا للصديق زياد عيتاني، على خلفية قضية المطران الحاج بعنوان «ماذا لو كان المطران شيخًا سنيًا؟» وبيت قصيد الكلام كان في تطبيق المعايير القانونية بقوله: «لستُ مع تسهيل نقل أموال إلى الأراضي اللبنانية عن طريق الشنطة مهما كان نوعها أو جنسيتها، سواء كانت إيرانية أو أميركية أو فرنسية أو سعودية، فكيف بالأحرى إسرائيلية… فمن أراد نقل أموال، وإن كان رجل دين، فعليه استخدام السبل القانونية المفروضة على جميع اللبنانيين…». وهنا يعود الكاتب للتأكيد على اختلال الموازين بذكره قضية اغتيال الشيخ أحمد عبد الواحد: «ماذا لو كان ناقل الأموال شيخًا سنيًا بزيه الرسمي الذي تضرّج بالدماء في 20-5-2012، على حاجز الجيش اللبناني… فهل كانت السلطات ستكتفي بحجز ما يحمله؟».
القضية هنا تعود بنا إلى ما ذكرته في مقال سابق حول الثور الأبيض، فعندما نتصرف جميعًا على أساس أننا كلنا من الطينة ذاتها، يمكن ساعتها فقط أن نصبح مواطنين في وطن واحد ونحافظ عليه لأنه لنا بالتساوي. أي أن نفهم أنه لم يكن وجد لمجموعة تعتبره أنشئ من أجلها، ولا لأخرى أتت لتستولي عليه لتضمّه إلى حضن دولة أخرى أو أمة أخرى. وعن المعايير المزدوجة فقد تركت قضية المئات من المعتقلين المسلمين السنة معلقة ومتجاهلة كأنها لا تعني أحدًا إلا زوجات المعتقلين وأولادهم، وأحيانًا بعض المتنطّحين للزعامة أو المزايدة على آخرين ضمن الطائفة السنية. وذنب هؤلاء المعتقلين كلهم، مهما بلغ من خطورة، لا يعادل ذنب من اغتال الضابط الشهيد سامر حنا في مروحية للجيش اللبناني كانت فوق الأراضي اللبنانية، فخرج بكفالة تافهة واختفى، مثل غيره من المجرمين، في غياهب الصراع السوري. بعض هؤلاء «الإرهابيين من السنّة» ظنّ أنه يتمثّل بميليشيا «حزب الله» المذهبية، فقرر أن ينشئ منظومة مماثلة، لكن سنية، وربما ظن أن قواعد المعاملة بالمثل وبالتساوي تسمح له بأن يدّعي المقاومة والسعي للصلاة في «أولى القبلتين وثاني الحرمين» فقتل على الفور أو دخل في دهليز السجن من دون محاكمة.
المعايير المزدوجة هي في أن تأتي آلاف الحاويات إلى المرافئ والمطار وعبر الحدود، ذهابًا وإيابًا بإسم «حزب الله»، من دون أن يعرف غير العليم بما تحويه. ومن ثم يضطر المواطن أن يشتري ما هرب من الجمارك في مخازن في الضاحية قادرة على المنافسة، وأن يُقفل مخبز، وعن حق، في طرابلس لأنه يحتكر الطحين، بينما يصرّح شيخ تابع لـ«حزب الله» بأن التهريب لمصلحة المقاومة حلال. كل هذا والحزب يعطل القضاء المنتدب لضمان وحدة المعايير بين الناس، في قضية المرفأ وغيرها، ويسمّي قتلة رفيق الحريري بالقديسين، ويستبيح القوانين والحدود، وينصب الولي الفقيه حاكمًا على لبنان وسورية والعراق واليمن، من دون مراعاة أي من المعايير.
المعايير الموزونة تأتي أيضًا في قضية تحديد ما هو العدو على المستوى الوطني، قبل تحديد من هو هذا العدو. فإن كان معيار العداوة هو ضرب السيادة والاعتداء والتخريب وتدمير الاقتصاد وتأليف عصابات مسلحة عابرة للحدود والمشاركة في الإرهاب الدولي وتبييض الأموال وتجارة المخدرات وتخريب العلاقات الديبلوماسية والمصلحية، فأظن أنّ مجتمعنا عليه إعادة النظر في قاعدة «من هم أعداء لبنان». كل هذا ضروري حتى لا يكون هناك خلل في التعامل مع قضية تشبه قضية المطران الحاج، ونخرج جميعنا من النفاق المُستدام في القول والفعل والإهمال.