«مملكة» جورج خضر ليست من هذا العالم. صحيح ان اللاهوتي التسعيني يشرف على شؤون وشجون 94 قرية في كل جبل لبنان لكنه في الواقع «ليس هنا. فأنتم تطلبونه وهو ليس هنا».
تحضر سريعا هذه الكلمات من الانجيل المقدس في حضرة متروبوليت جبل لبنان للروم الارثوذكس المطران جورج خضر. يقيم حاجزا سميكا أمام وابل الاسئلة المرتبطة من قريب أو بعيد بالأزمة اللبنانية وجيرانها. «لا وقت لدي إلا للقراءة ولمتابعة شؤون أبرشيتي» يقول المطران خضر. هل هذا يعني أن ما يتردد عن امكانية تقسيم المطرانية غير وارد؟ يجيب بحزم وبعض الحدة: «هذا كذب. لا أساس لهذا الكلام على الاطلاق. فلبنان كله بقعة صغيرة على جغرافية العالم ويتحدثون عن تقسيم المطرانية!». ويتابع نازعا المزيد من الغبار عما يقال: «لا أحد من المساعدين يقوم مقام المطران الذي يدير كل شيء لتبقى التفاصيل الصغيرة للمساعدين». يشدد على أن «لا استعلاء في كنيستنا بين الاسقف والرعية».
«حبيب الله»، على ما ينادى الارثوذكس، والذي قيل فيه أنه «يكتب اللاهوت شعرا»، يحضر في جلسته كثيرا بولس الرسول القائل: «هائل هو الوقوع بين يدي الله الحي». يبدو مسكونا بهذه الفكرة. «لا مزاح في تلك اللحظة أمام القدير، وعلينا تعبيد الطريق جيدا». فالأيقونة ليست في معدنها وانما «في من تذكر به».
في مفهوم «المطران العتيق»، يعتبر الحديث في السياسة «انزلاقا». يكتفي بالتضرع الى «أعجوبة من الله» لكي ينتهي الشلل العام الذي يضرب البلد. يقارب بايجاز جملة استحقاقات ببلاغة واضحة: «المخاطر التي تتهدد المسيحيين في الشرق تتهدد كل سكان هذه المنطقة من دون استثناء. واما أزمة الرئاسة في لبنان، فمن قال برئيس ماروني؟ المهم أن يكون لبنانيا وينظر الى الفقير في هذا البلد».
يؤثر المطران خضر عدم التعليق على اللبس الذي رافق تصريح الكنيسة الروسية عن «الحرب المقدسة في سوريا»، لكنه يصوّب دينيا بقوله: «في المبدأ المسيحي لا وجود لما يسمى الجهاد المقدس».
يصمت المطران طويلا عندما نركن السياسة جانبا. يشبك كفيه ببعضهما ويفصح: «لم أقرأ في حياتي كتابا أهم من الانجيل». «أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببتكم» هي العبارة الأقرب الى قلبه من كل الكتاب. يرى في الجمال «تناسب الخطوط في الانسان والحيوان والجماد»، والوطن يصفه بأنه «شعور بأرض ما وشعبها». أما الخيانة فهي «فقدان الحب» والغدر هو «القضاء على الحب». الحب، برأيه، هو الله «لا يفسر بل يعاش». يدرك في حديثه عن المرأة أن البعض لن يتقبله لكنه يقول بكل شفافية رجل دين: «إنها كائن كامل. شريكة الرجل في الحياة ومكمّلته، أي انها موقع حبه».
ينظر بعينين زرقاوين صافيتين الى سنواته التي تغوص في التسعين (مواليد 1923) ليرى «الحياة عمرا للحب. تعطى لنا السنوات والايام لكي نحب فيها الآخرين. ومقابل من يكرهوننا، لا طريقة أمامنا لكي نردعهم سوى بمبادلتهم المزيد من العطف، فالمحبة وحدها تشفي». لا يندم على أي شيء في حياته. «أفترض أنني اتخذت الخيارات بوعي مني».
دخوله في سلك اللاهوت جاء عن طريق «التعرف الى ديني من خلال الدراسة. وهذا قادني الى الانتقال من معرفة الايمان المسيحي الى السعي الى خدمة هذا الايمان بطريقة كلية عبر الكهنوت». درس الحقوق في جامعة القديس يوسف قبل الانخراط كليا في عالم الكهنوت الذي درسه في باريس في «معهد اللاهوت الروسي الارثوذكسي».
يحتفظ المطران خضر بقصصه الخاصة. يجيب بالفرنسية بأنها «سر». لكنه يجزم بأنه لم يعش قصة حب كأي رجل عادي. في ذلك الزمن، استمتع بأغاني أم كلثوم والفن الرحباني، ولكن الذاكرة لم تعد تسعفه في تذكر شيء. يواظب على زيارة مسقط رأسه طرابلس كل نهاية أسبوع، بالاضافة الى تفقد قرى الرعية طوال أيام الاسبوع.
منذ العام 1914، واظبت الكنيسة الارثوذكسية على ارسال اكليريكييها للدراسة في كل من روسيا وبلغاريا وصربيا واليونان واسطنبول. ينفي ما يتردد حول ان الغالبية يتم توجيهها الى اليونان تحديدا. لا يعتبر أن الجنسية اليونانية لبطريرك القدس الذي يبيع أراضي المسيحيين الأصليين هي التي تملي عليه ذلك وانما هي «شهوات بشرية». برأيه أن «المسألة لا تتعلق بالقومية، بقدر ما تتعلق بأن يكون البطريرك من جنسية شعبه وأن يكون مكرسا نفسه لخدمة الكلمة».
حضور المطران خضر صاخب في هدوئه. بمن تأثرت في حياتك؟ يجيب: «لم أتأثر بأحد». أليست هذه نرجسية؟ يعلق: «هذا اتهام. ولكنني لا أشعر بذلك في رؤيتي لنفسي. أنا مسيحي، وبالتالي لست عابد نفسي. فمن هو جورج خضر؟ لا أحد». يأكل المطران خضر من الطعام القليل. يقرأ كثيرا لآباء الكنيسة من يوحنا الذهبي الفم الى غريغوريوس اللاهوتي وباسيليوس الكبير وماكسيموس المعترف الى اللاهوتيين الارثوذكس المعاصرين كبولغاكوف وفلاديمير لوسكي وغيرهما. لكنه لن يصدر أي كتاب له حاليا. كتب مرة أن مولده في تموز ولكن ليست هناك الولادة فـ «عيد الانسان في موته. والقديسون نعيّد لهم يوم مماتهم، أي يوم ظهور شهادتهم للمسيح».