ليس أسهل في لبنان من تأجيج التناقضات الطائفية، وإشعال المشاعر الدينية، والترويج للخطابات الشعبوية، في وقت أحوج ما يكون فيه البلد إلى الحد الأدنى من وحدة الكلمة، ورص الصفوف والتعاون بين المكونات الوطنية، للخروج من مهاوي الأزمات المتراكمة.
وفيما فقد الناس ثقتهم بالمنظومة الحاكمة، وباتوا يرجمونها بأبشع اللعنات، تبقى المرجعيات الروحية هي مصدر القوة والصمود للصيغة الوطنية، لتجاوز مراحل التعثر والإنهيار، والحفاظ ليس على وحدة البلد والكيان وحسب، بل وعلى «وطن الرسالة» كما وصفه البابا يوحنا الثاني، وتم تكريسه في مقررات السينودس الخاص بلبنان.
ومن المفارقات العجائبية في لبنان، أن البلد المخلّع الأبواب أمام شتّى رياح الأزمات، ويفتقد إلى وجود رموز السلطة الفعلية والقادرة، بسبب العجز المتمادي في تأليف حكومة «عمل وإنجاز» في الأشهر المتبقية من ولاية العهد الحالي. ويعاني من ضياع مرجعية القرار المالي، ويتخبط في دوامة الإضرابات التي شلت دوائر الدولة المتهالكة، وتعيش الأكثرية الساحقة من شعبه تحت خط الفقر،.. يجد هذا البلد المنكوب نفسه أمام مشاكل جانبية، تُحركها المشاعر الطائفية تارة، والمزايدات السياسية الشعبوية تارات أخرى، وآخرها إشكالية التعاطي مع المطران موسى الحاج، والدعوة لتقسيم بلدية بيروت.
لا شك أن القضية المُثارة حول الأموال التي نقلها راعية أبرشية الأراضي المقدسة هي من الحساسية بمكان، ولكنها تتطلب معالجة هادئة بعيدة عن الإستغلال السياسي والطائفي والفئوي، ودون ضجيج إعلامي أو خطابي، للوصول إلى وضع الأمور في نصابها الصحيح، وكشف الملابسات على حقيقتها، والحفاظ على ما تبقى من هيبة الدولة من جهة، وعلى كرامة المطران الحاج وما يُمثل، من جهة ثانية.
ثمة عُرف لبناني، لا أحد يستطيع أن يتنكر له، ويعتبر أن التعرض لأي مرجعية دينية، إنما يمس كل المرجعيات الروحية، وبالتالي فإن قضية المطران الحاج هي قضية وطنية، تعني كل المرجعيات الأخرى، بإنتظار جلاء كافة الملابسات وظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
لقد تميّزت عظة الأحد للبطريرك الراعي من الديمان بكثير من الهدوء والحكمة والحرص الوطني، بعيداً عن أساليب التصعيد والتحريض التي سارع لها بعض الأطراف الحزبية، سعياً لمكاسب شعبوية رخيصة.
********
أما بالنسبة لدعوة تقسيم بلدية بيروت، التي إنتشرت مثل النار في الهشيم على وسائل التواصل الإجتماعي، وخرجت عن سيطرة المروجين لها، فقد جاءت في الوقت الغلط، وطُرحت بالأسلوب الغلط، وتم تحديد أهدافها بالغلط أيضاً.
لا يختلف أثنان في بيروت على تردي مستوى الخدمات البلدية، وعلى الفشل الذريع للمجلس البلدي الحالي في إدارة شؤون العاصمة، والعمل على تلبية الإحتياجات الضرورية لسكان العاصمة.
ولكن الخطأ لا يعالج بخطأ أكبر، بمعني أن تقصير المجلس البلدي الحالي لا يبرر الدعوة لتقسيم البلدية على خلفية طائفية بغيضة، تُعيد إلى ذاكرة البيارتة خاصة، وإلى اللبنانيين عامة، مشاهد الحرب الأهلية التي قسمت العاصمة إلى بيروتين: شرقية ذات الغالبية المسيحية، وغربية ذات الغالبية الإسلامية.
إن مساحة بيروت الإدارية التي تنتهي غرباً قبل منتجع السمرلند، وشرقاً عند جسر الفيات، وشمالاً عند جسر النهر، وجنوباً قبل دوار الطيونة، هي أصغر من أن تُقسم وتتوزع عائداتها على أكثر من صندوق بلدي، في حين أن المطلوب هو إنشاء إتحاد بلديات يضم العاصمة وضواحيها، لتوفير الإمكانيات اللازمة لتأمين الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والمياه ومعالجة النفايات وتجهيزات البنية التحتية المختلفة.
ليس سراً القول أن ملف تقسيم بلدية بيروت دخل بازار المنافسة الإنتخابية والشعبوية بين الأحزاب المسيحية، وخاصة القوات اللبنانية والتيار الوطني، دون الأخذ بعين الإعتبار أن تقسيم البلدية، سيجر إلى تقسيم المحافظة في الوقت نفسه، ويفتح شهية العديد من المدن والبلديات الأخرى على خيار التقسيم، ولو من باب المزايدات الحزبية والسياسية. فضلاً عن تعرض قواعد المناصفة للإهتزاز، والتي مازالت موضع إحترام وإلتزام من القيادات البيروتية حتى كتابة هذه السطور.
ولكن اللافت أن موقف القوات والتيار لا يحظى بتأييد المرجعيات الروحية المسيحية في العاصمة، كما أن عدداً من نواب الأشرفية يُعارضون الفكرة من أساسها، ويعتبرون أن تفعيل عمل البلدية لا يتم عبر رفع راية التقسيم.
في زحمة الضجيج الطائفي والفئوي تغيب القضايا الوطنية المصيرية عن السمع، ويتلاشى الإهتمام الرسمي بوجع الناس، وتصبح الإستحقاقات الداهمة في الصفوف الخلفية، وتختفي الأحاديث عن الحكومة العتيدة والإنتخابات الرئاسية التي إقتربت من دائرة الإستحقاق الدستوري!