في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، كان ثمة مطران يوصف بالمطران الأحمر ملأ الدنيا إصلاحاً واحتراماً لثوبه ورسالته قبل أن تطلب منه السلطات الكنسية تسليم مفاتيح أبرشيته. اليوم تنتصب في الكنيسة المارونية قامة مطران برتقاليّ كسرت السقف المنخفض. المطران الياس نصار سيواصل رفض الانحناء لأمراء الحرب، ويستمر في التحريض عليهم، سواء كان مطراناً منزوع الصلاحيات كما هو منذ عامين أو مطراناً أقاله قرار فاتيكاني ابتداءً من غد الأربعاء
اسمها مطرانية صيدا وتوابعها لأن مقرها في صيدا. لكنها فعلياً مطرانية الشوف وجزين وجزء كبير من مرجعيون والبقاع الغربيّ. ولتلك المنطقة بيكها ونائبتها وسماسرتها الصغار وغيرهم من الخطوط الحمر الذين آثر المطران الياس نصار تجاهلهم جميعاً.
فبعيد تحويل النائب وليد جنبلاط رجال الدين في الشوف إلى مجرد مطبّلين إضافيين في حفل الزجل الأسبوعيّ في المختارة، خرج له مطران يذكّره ليلاً ونهاراً بالمطران بستاني، فيتصدى بحزم لاستيلاء أزلام البيك على الوقف الماروني المحيط بمجرى نبع الصفا، ولا يهاب تحريك جنبلاط مخافر المنطقة تارة، وبقايا ميليشياه طوراً، رافضاً أن يزوره ما لم يُزَر، أو أن يحصل على موافقة المختارة المسبقة على ترميم كنيسة أو إصلاح بيت رعوي، قبل أن يدعو من المنبر الكنسي إلى «ثورة بيضاء ضد زعيم الشوف وعاليه لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب»، داعياً إلى إضرابات مدنية ضد قانون الستين الجنبلاطيّ.
لم يحاول نصار أن يتلطى خلف إحدى المجموعات ليحمي ظهره كما يفعل جميع المطارنة
وهو ما استدعى، سابقاً ولاحقاً، من البيك تحريك أزلامه الكثر، مستفيداً من تحكمه بصندوق المهجرين والقوى الأمنية في المنطقة والوزارات المتعددة وغيرها، فيما المطران أعزل. لم تنتهِ الأمور هنا. فبموازاة الأزمة المفتوحة بين نصار وجنبلاط، اندلعت حرب حقيقية بين مطران صيدا والأب عبدو أبو كسم؛ الأخير من أقوى الآباء في بكركي. هكذا وضع نصار جنبلاط وأبو كسم في ظهره، علماً بأن فائض الثقة بالنفس ومجاهرته الدائمة بعونيته لم يجعلاه يوماً شخصية محبوبة في مجدليون. ولم يكن ينقصه والحال هكذا سوى تكرار القول إن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ما هو إلا مجرم يداه ملطختان بالدم. وهذا بات اليوم ممنوعاً. فقبل المطران نصار، ثمة قائمة كبيرة من الملفات المفبركة إعلامياً واستخباراتياً لإبعاد كل من يرفض «رفع العشرة» لرئيس حزب القوات والقول إنه قديس بيضاويّ اليدين ومسيرته مفعمة بالخير والمحبة. هناك من يستفيد من التفاهم مع قيادة التيار الوطني الحر ليقوم بتصفية معنوية لكل من يطعن بصدقيته أو يذكر بماضيه. المطران الياس نصار حلقة في سلسلة تتكسر من دون مبالاة من أحد، علماً بأن القوات اللبنانية قالت في أحد بياناتها ضد نصار إنها لا تستغرب إبداء نصار إعجابه بالرئيس ميشال عون «نظراً إلى التشابه الواضح بين طبيعتَي الرجلين في تضليل القطيع وصلب الحقيقة». ونتيجة لكل ما سبق، كان طبيعيّاً أن يتجنب رجال الأعمال تهديد مصالحهم في الدولة عبر إزعاج البيك وغيره بدعم مشاريع المطران أو أبرشيته، فتعثرت المشاريع الإنمائية واحداً تلو الآخر، وازدادت أيضاً شكاوى الكثير من آباء الأبرشية لأسباب إدارية مختلفة. أما داخل مجمع المطارنة، فلم يحاول نصار أن يتلطى عند إحدى المجموعات ليحمي ظهره كما يفعل جميع المطارنة، إنما واصل هجوماته في الداخل كما في الخارج. وفي النتيجة، سلكت إحدى الدعاوى المرفوعة من آباء في أبرشية صيدا ضد المطران طريقها صوب الفاتيكان، مدعومة بقوة من القوات اللبنانية أولاً، والأب عبدو أبو كسم ثانياً، والنائب وليد جنبلاط ثالثاً وعدد كبير من المطارنة الذين سيسرّهم التخلص من هذا المطران المزعج. وفي هذا السياق، يقول نائب جزين المحامي زياد أسود إن الوقائع تؤكد وجود مشكلة إدارية كبيرة بين المطران وعدد كبير من الكهنة في أبرشيته، لكن الطرفين عجزا عن تثبيت ارتكاب أي منهما لمخالفات إدارية جدية. يضاف إلى ذلك، وفق أسود دائماً، تعيين مجلس المطارنة مدبراً بطريركياً على أبرشية صيدا هو المطران بولس مطر على نحو يرفع المسؤولية الإدارية بالكامل عن المطران نصار ويحمّلها لمطر في حال وجود أي خلل. ويقول أسود إن الفاتيكان رفض محاولات المطران المتعددة طلب مواعيد مع المعنيين بملفه، وردّت كل رسائله ولم تسمع وجهة نظره. ولا شك، يتابع أسود، أن القرار الأخير يتعلق بمواقفه السياسية وشخصيته، لا بأدائه الإداريّ.
المطران نصار الذي كان من أول الذين استقبلهم الرئيس ميشال عون غداة انتخابه رئيساً، كان لا يزال في روما أمس. وهو قال لـ»الأخبار» إن «المعركة مع مافيا السلطة والمال طويلة وشاقة وحافلة بالمفاجآت، وهم يعرفون أنني أعرفهم جيداً»، علماً بأن القرار الفاتيكاني الأخير نص على وجوب تقديم نصار لاستقالته قبيل يوم الأربعاء المقبل أو سيعتبر مقالاً. لكن نصار يحضّر لمؤتمر صحافي قبيل الأربعاء يوضح فيه تفاصيل العرض البطريركي له بالانتقال من أبرشية صيدا إلى أبرشية أوروبا لـ»كسر الشر»، إضافة إلى الكشف عن الخطوات التصعيدية، علماً بأن بكركي والسفارة البابوية شهدتا أمس تظاهرة تأييد لنصار تحتج على القرار الفاتيكاني على نحو غير مسبوق في تاريخ البطريركية المارونية، حيث أثبت نصار أن كل الحصار السياسي والإداري والخدماتي والكنسي لم يحل دون بنائه حيثية خاصة لن تتخلى عنه وستقف إلى جانبه في الأيام المقبلة. وكان المتظاهرون قد لفتوا نظر البطريرك المارونيّ بشارة الراعي إلى الفارق بين أسطول سياراته الحديثة والباهظة، وسيارة نصار القديمة التي ورثها عن سلف سلفه، إضافة إلى رهنه بيت أهله، فيما بعض المحيطين بالبطريرك يبنون قصوراً. ونشرت صور ومقاطع فيديو تظهر السفير البابوي وهو يهرب باتجاه سيارته من غضب المتظاهرين. ولا شكّ في هذا السياق أن ما استنفرت بكركي أجهزة أمنية وقضائية ورجال أعمال لإخماده سينفجر في وجهها في الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي التي شهدت تداولاً استثنائياً أمس لمشهد محاصرة المتظاهرين لسيارة البطريرك ورفضهم خفض صوتهم ليسمع ومرافقوه جيداً ما يودّون قوله.