Site icon IMLebanon

“سدّ” في وجه الجميع

 

الحكومة تُخفي الكلفة الحقيقية لمشروع “بسري”… وعينها على أموال المودعين

 

 

مع إقرار الحكومة استكمال الأعمال، عاد مشروع سد بسري إلى واجهة الأحداث. الكلفة البيئية والإجتماعية الباهظة للمشروع على الامد المتوسط والبعيد، تقابلها كلفة إقتصادية قريبة المدى ستفوق بأشواط مبلغ الـ 600 مليون دولار الذي يحكى عنه.

الحرص على ألا يعتبر مبلغ الـ 155 مليون دولار الذي دفع بدل استملاكات هدراً للمال العام، حتّم على “الغيورين” على أموال دافعي الضرائب السير بالمشروع ولو كلف المليارات وأدى إلى عمليات استدانة، ليس فقط نحن بغنى عنها بل اننا عاجزون عن تحملها.

 

التجارب العالمية أظهرت أن تكلفة السدود الضخمة، كمشروع سد بسري، عادة ما تكون مرتفعة مقارنة مع جدواها المنخفضة. هذا وتعتبر “الفائدة الاقتصادية لهذه السدود كانت في أحسن الأحوال هامشية”، بحسب اللجنة العالمية للسدود الكبيرة. وقد أظهرت هذه اللجنة أيضاً أن معدل التكاليف الإضافية للسدود بلغ 56 في المئة من كلفة السد الأساسية في حال انشائها في الدول المتطورة، فماذا عساه يكون في بلد مثل لبنان يحتل المرتبة 137 على مؤشر مدركات الفساد؟

 

أموال المودعين لتمويل المشروع

 

يجيب المحلل الاقتصادي في “المعهد اللبناني لدراسات السوق” مجدي عارف ان “الكلفة الأولية للسد تبلغ 1.35 مليار دولار وليس 600 مليون كما يسوّق. وذلك باعتبار المشروع جزءاً من مخطط المياه الضخم الذي يضم جر المياه من الليطاني، وإزالة المخالفات”. ويضيف عارف: “أما إذا ما احتسبنا الزيادة في التكاليف وفقد تقديرات اللجنة العالمية للسدود، فقد تصل كلفة المشروع الى 2.1 مليار دولار”. قياساً إلى “فلسفة” المشاريع في لبنان عموماً، والمياه والكهرباء منها خصوصاً، نتوقع ألا تنحصر الكلفة الإضافية بالمعيار العالمي المقدر بـ 56 في المئة، بل من الممكن ان تصل إلى مئة في المئة ان لم يكن أكثر. فغياب المحاسبة والمساءلة عن مشاريع الطاقة وكثرة السمسرات وعمليات المحاصصة والتقاسم، كبّدت الإقتصاد لغاية الآن أكثر من 40 مليار دولار في الكهرباء وحدها. أما في المياه فما زالت جبالات الباطون تضخ اسمنتها في شقوق مشروع سد “بريصا” من دون ان يلحم، وحيث ارتفعت الكلفة الحقيقية للمشروع من 10 ملايين دولار إلى أكثر من ثلاثين مليوناً، ساعدها في ذلك الفترة الطويلة التي تطلبها بناء المشروع واستمرار فتح “مزاريب” الهدر والفساد.

 

وعلى هذا السياق فان الكلفة الإضافية لمشروع سد بسري لن تكون مليوناً أو مليونين بل ستتخطى المليارين. وفي ظل عجز الدولة عن تأمين التمويل الباقي وتغطية مثل هذه النفقات، وأمام رفض مختلف المؤسسات والدول والصناديق إقراضها بعدما اعلنت تمنّعها عن سداد الديون، وبسبب عدم مبادرتها لغاية الآن بوضع خطة إقتصادية إنقاذية جدية، لن يبقى أمامها، برأي عارف، إلا “الاستحصال على ما تبقى من أموال المودعين على الأرجح”.

 

وإضافة إلى التمويل، يبرز التساؤل عن مصدر المياه المفترض تخزينها في هذا السد. وبحسب عارف، يُعتبَر مصدر المياه الأساسي للسد هو نهر الليطاني، والذي بات يُطلَق عليه اسم نهر الموت نظراً لشدة تلوثه. وقد أقر مجلس النواب مبلغ 1100 مليار لتنظيفه، ولكن هذا المشروع سيبقى عالقاً بسبب توقف الدولة عن سداد ديونها، ما يعلق معه سد بسري. وعليه، لا ينبغي البدء بتنفيذ السد ما لم تؤمن الدولة الأموال اللازمة لتنظيف نهر الليطاني.

 

حل المأزق

 

أمام هذا الواقع “المفلس” لم يبق للدولة من خيار سوى ايقاف العمل بسد بسري والمشاريع التي تشبهه. أما بقية المشاريع في البنى التحتية والتي تعتبر أكثر من ضرورية لخدمة الإقتصاد والمواطن، والتي كان قد لحظ مؤتمر “سيدر” المعطل، قسماً كبيراً منها، فعلى الدولة نفض الغبار عن مشروع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتحويل استكمالها للقطاع الخاص. فإذا كان للمشروع منفعة فعلية، اي قدرة على خدمة مصالح الناس وتأمين مردود، تُقدم الشركات على الإستثمار فيه وادارته، اما اذا كان مشروعاً فاشلاً، فلن تجد الحكومة شركة تموله وهو ما يعني انه من مصلحة الدولة العليا، ايقافه. أما بالنسبة الى بسري فان هذا المنهاج يريح الحكومة من التجاذبات السياسية التي خلقتها عندما أعادت طرح المشروع على الطاولة. ويتم وضع حد للجدل القائم حول السد لكون الدولة لا تتحمل التكلفة بهذه الطريقة.

 

وبحسب عارف فإن “هذه التجربة ليست بجديدة في العالم؛ فقد قام العديد من الدول باتخاذ إجراءات مماثلة ليتبين أنها من أفضل القرارات التي اتخذتها. ومن أشهر هذه الدول بريطانيا التي وصلت إلى مرحلة شبيهة بلبنان من التضخم العالي والركود الاقتصادي وشبه إفلاس الدولة. وقد قررت الحكومة حينها إدخال القطاع الخاص إلى قطاع المياه المترهل الذي يشكو من سوء النوعية وارتفاع الهدر في الشبكات. وإذا ما نظرنا إلى هذه الدول اليوم، فإننا نجد أن نسبة استثمار الشركات في القطاع قد تخطت 160 مليار دولار، وهو مبلغ لم يكن ليحصل في دولة مفلسة لو استمرت في خطتها القديمة، فما الذي يمنع الحكومة اللبنانية من القيام بمثل هذه الإجراءات؟”.

 

لقد حان الوقت لوضع حدٍّ لنزيف خزينة الدولة وحصر ما تبقى بالنفقات الأساسية، خصوصاً بعد ارتفاع صرخة اللبنانيين ضد “السد”. كما بات من الأجدى للحكومة اتخاذ قرارات يُجمِع عليها اللبنانيون ولا تفتح جدالاً جديداً يضعها في وجههم ويفقدها ما تبقى من الثقة. فالتعنت على استكمال مشاريع مكلفة وفاشلة وغير شعبية، سيدفع كل لبنان الثمن بعد زوال جائحة “كورونا”، وعودة الأمور أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل أسابيع. فالاولوية في الطاقة اليوم يجب ان تكون منصبة على إصلاح الكهرباء، عبر تعيين الهيئة الناظمة للقطاع ومجلس إدارة جديد لشركة كهرباء لبنان والتخلص من حل البواخر الموقت، واعتماد الشفافية في مناقصات وتلزيمات المعامل الدائمة… وليس في العودة الى “موال” السدود الذي بدأ العديد من الدول المتطورة، مثل هولندا والدنمارك وإسبانيا والولايات المتحدة، بالتخلي عنها وهدمها.