Site icon IMLebanon

مبادرة بكركي .. والوصول إلى الرماد

 

وفي الأحد الثالث تبين أن مطالبة البطريرك مار بطرس الراعي بإعلان حياد لبنان، ومناشدته رئيس الجمهورية تحرير الشرعية والقرار الوطني من الحصار المفروض عليهما، لم يكونا من نوع «قل كلمتك وامشِ».

 

الخطاب الناري والمباشر للبطريرك الماروني تحوّل إلى موقف وطني شامل، بعدما تلقّفته مجموعات ثورة ١٧ تشرين، وسارعت إلى الإلتفاف حوله قوى سياسية من ضفتي المعارضة والمولاة، ووصلت أصداؤه إلى عواصم القرار الدولي، وبادرت حاضرة الفاتيكان إلى إحتضانه، ووضعه بنداً على جدول محادثات وزير الخارجية اللبناني ناصيف حتّي مع كبار المسؤولين في المرجعية المسيحية الأولى في العالم.

 

تمسّك البطريرك الراعي من خلال الكلمات التي ألقاها في الأسبوعين الماضيين، بمبدأ حياد لبنان، وإستعادة القرار السيادي للدولة اللبنانية، يؤكد بأن ثمة تحركاً جدياً لتحقيق خطوة إصلاحية سياسية إستراتيجية على المستوى الوطني، في مرحلة يتفاقم فيها عجز السلطة، حكم وحكومة، عن تنفيذ أدنى الخطوات في مسار الإصلاحات الإقتصادية والمالية والإدارية المطلوبة من الدول المانحة والمؤسسات الدولية، كشرط أساسي لمد يد العون والدعم والمساعدة لإخراج الوطن الصغير من محنة التعثر والإفلاس.

 

خروج لبنان من مستنقعات الصراعات الإقليمية والدولية المحتدمة في المنطقة، لم يعد مسألة سياسية داخلية تدخل في صلب الخلافات السياسية التقليدية، بقدر ما تحوّل إلى مطلب عربي ودولي، لإعادة البلد إلى موقعه الطبيعي، كجسر للتلاقي والحوار في المنطقة بين الشرق والغرب، وإستعادة توازناته الداخلية والإقليمية، التي تحفظ أمنه وإستقراره، وتوفر له الإزدهار والنمو المفقودين في السنوات الأخيرة.

 

لقد ظهر جلياً أن ثمة عاملين رئيسيين أوصلا البلد إلى الإنهيار الحالي:

 

– الأول سوء الإدارة السياسية التي إتسمت بالفساد الفاضح، والهدر الفادح، وتغليب المكاسب الأنانية والحزبية، على ما عداها من مصالح الوطن العليا.

 

– والثاني إبتعاد لبنان عن الصف العربي وإنحيازه إلى المحور الإيراني في المواجهة المشتعلة في المنطقة، ووجوده في دائرة الحصار التي إستهدفت إيران وذراعها العسكري «حزب الله»، الذي إنتشرت مجموعاته من سوريا إلى اليمن، مروراً طبعاً بالعراق والبحرين، وبعض الدول الخليجية الأخرى.

 

لم يعد خافياً أن العامل الثاني أدّى إلى تسريع خطوات الإنهيار، بسبب القطيعة العربية الناتجة عن عدم إلتزام لبنان مسؤولياته القومية في إطار سياسة التضامن العربي، ومبادلة الأشقاء بالوقوف إلى جانبهم عندما يتعرض أمنهم الوطني والقومي للخطر، كما كانت تفعل الدول الشقيقة كلما تعرض لبنان لهزة داخلية، أو لعدوان إسرائيلي.

 

ولعل المقاطعة العربية للدولة اللبنانية ظهرت بأوضح صورها في القطيعة المستمرة مع الحكومة الحالية، على إعتبار أنها «حكومة حزب الله»، وتحمل ألوان فريق ٨ آذار، في ظل غياب كامل للقوى التي كانت تؤلف فريق ١٤ آذار، حيث لم يقم أي سفير دولة خليجية بزيارة السراي منذ تشكيل الحكومة، كما لم يتمكن رئيسها حسان دياب من خرق هذه المقاطعة، والقيام بأية زيارة إلى الدول الخليجية أو العربية المتضامنة معها.

 

الموقف المدوّي للبطريرك الراعي أعاد الروح إلى إعلان بعبدا، الذي حاول العهد الحالي محوه من ذاكرة اللبنانيين، وتجاهَل تحوله إلى وثيقة رسمية لدى منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمات دولية وإقليمية أخرى، لأنه ينص على سياسة النأي بالنفس، وتحييد لبنان عن الصراعات في الإقليم، مع تأكيد الإلتزام بالموقف العربي في قضية الصراع مع العدو الإسرائيلي. وغني عن القول أن هذا الإعلان كان موضع إجماع وطني نادر، لأنه حظي بموافقة وتوقيع كل القوى السياسية والحزبية، بما فيها حزب الله.

 

ولكن موقف سيد بكركي وحده لا يكفي لتحقيق الإصلاح السياسي الإستراتيجي المطلوب، بموازاة الإصلاحات المالية والإدارية المنتظرة، إذا لم تلاقيه القوى السياسية والمدنية الفاعلة في منتصف الطريق، وتتلقّف المبادرة لتنسج حولها واقعاً وطنياً، يُعيد التوازن إلى الصيغة الداخلية، ويشكل رافعة لتسريع المساعدات الخارجية، وذلك عبر تشكيل جبهة وطنية عريضة، تضم القوى السيادية، ومجموعات الحراك الوطني، مثل «الجبهة المدنية الوطنية» التي تم إطلاقها الأسبوع الماضي، للعمل على تحقيق أهداف ثورة ١٧ تشرين.

 

بيان المطارنة الشهير الصادر عن بكركي في أيار عام ٢٠٠٠، مهّد لولادة إجتماعات قرنة شهوان، التي تحولت إلى لقاء وطني في إجتماعات البريستول لاحقاً، والتي شكلت بدورها النواة الأولى لتجمع قوى ١٤ آذار..، فهل لبنان اليوم على عتبة مرحلة تحوّل جديدة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل الوصول إلى مستوى الرماد؟